I ـــ المدنُ التاريخيَّة في التّعريف
ما هي المدنُ التاريخيَّةُ في التعريف؟ وما هو التُراث؟ ما يُهِمُّنا نحنُ المعماريُّين العرب من البحثِ في هذا التعريفِ، هو إدْراكُنا، بأن المكتشفاتِ الأركيولوجية، تؤكِّد أن الوطنَ العربيَّ، هو مهدُ المدنِ الأولى في التاريخ.
فمُنذُ الألفيَّةِ الرابعةِ قبل الميلاد، وعند مُلتقى دجلةَ والفرات، وفي ما عُرفَ بـ «الميزوبوتاميا»، تكوَّنتْ مجموعاتٌ مبنيَّةٌ، تميَّزت «بتنظيمٍ مديني»، يُحدِّد وسَطَ هذه المجموعاتِ، بصفتِه مَركزها، فيه مبانٍ عامَّة مختلفة، من بينِها مباني الحكم.

وفي الألفين التاليين، انتشَر هذا «التنظيمُ المديني» في أرجاءِ المَنطِقة. فنشَأتْ مدنٌ عواصِمُ لتنظيماتٍ إقليميةٍ، مثلَ سومَر، وبابل، وإبلا. وأُخرى تجاريةٌ على الشاطئ الكنعانيِّ ـ الفينيقي في جبيل، وأوغاريت، وصور، وغيرها... ليصلَ بعدها إلى المُدنِ المَعابدِ في وادي النيل، مِثلَ مِمْفيس والكَرنك.
لقد اندَثرَ بعضُ هذه المدن. ونُشاهِدُ حالاتٍ من الاستمرارِ في دمشق، وجبيل، وصور، وغيرها. فيستمرُّ البيتُ المنظَّم حولَ فناءٍ مفتوحٍ تدخُله السماءُ.
وفي زمنٍ قصير، انتَشرَ الإسلامُ حتى وصَلَ إلى إسبانيا والهند. ورافقَ هذا الانتشارَ، ازدهارٌ مدينيُّ مُذهلٌ. وقرابَةَ نهايةِ الألفيةِ الأُولى، كانَ في الوطنِ العربيِّ، المجموعةُ المدينيَّةُ الأكثرُ عدداً في العالم.
● ففي مشـرِقِ الوطن العربيِّ، شُيِّدت، البصْرةُ (635 م)، والكُوفَة (638 م)، والفُسطَاط (641 م)، النواةُ الأُولى لبناءِ القاهرة.
● أما في المغرب العربي، فبُنِيتْ القيروان (670 م)، وبعدها المونَستير وسُوسَه والمهديَّة، وفاس (810 م)، ومرَّاكش (1070م). مع التأكيدِ على التطوُّرِ المديني الذي شهِدَتْه مدنُ المشرقِ العربيِّ العريقَة، مثلَ حلَبِ، ودِمشق، والقُدس، وأنطاكية، وغيرها.
لقد شكَّلت التعاليمُ، التي أَرسَاها الإسلامُ في حياةِ الناسِ، الأُسسَ التي قامتْ عليها حياةٌ مدينيةٌ جديدَة.
وأرى أن هذهِ المدنَ العربيَّة الإسلامية، تُجسِّد طابعاً مميَّزاً، ونموذجاً أصيلاً، لما ستكونُ عليه، المدنُ العربيةُ الإسلاميةُ، التي تألَّقت في القرنَيْن العاشِر والحادي عشر م.
لقد رأى هذا النموذجُ المدينيُّ العربيُّ الإسلاميُّ، أنَّ تنظيمَ المجالِ مدينياً، يقومُ على مركزٍ تشيَّد فيه المباني العامَّة، بالإضافةِ إلى مَباني الحُكم. أما المناطِقُ السكنية، فتتوزَّعُ في الأطرافِ، محدَّدةً بدروبٍ تربُطها بالمَركز. إن في هذه الرؤيةِ، استمراراً لموروثٍ مدينيٍّ عربيٍّ آت من اليمنِ ومن الحِجَاز. والصفةُ التاريخيَّة لهذه المدنِ، تقومُ على رَكائزَ ثلاث:
الأولى: أنها نماذجُ تاريخيَّة، قَطَعتْ مع النماذجِ القائمةِ، وأسَّست لنماذِجَ جديدةٍ أصيلة.
والثانية: أن أجزاءً هامةً منها، استمرَّت عَبْر التاريخِ، وَوصلتنا بكلِّ خاصيَّاتها.
والثالثة: أن الناسَ يعيشونَ اليوم في هذا الإطارِ التاريخيِّ المورُوث.
ففي النسيجِ المبنيِّ القديمِ في القاهرة، وحلب، وصيدا، وطرابلس، يعيشُ ويعملُ كثرٌ. إنَّها أجزاءٌ مَدينيَّة تاريخيَّة بامتياز.

II ــــ التراث، والتراثي

أمَّا التراثُ في اللُّغةِ العربيةِ، فهو ما نرِثُه من الأجيالِ السابقة. وأصلُ الكلمةِ وُراثٌ (بضم الواو)، فأُبدِلَتْ الواو بالتاء وصارت تُراثاً.
والتراثُ الحضاريُّ، هو مجموعُ ما ورِثناه من مبانٍ، وأفكارٍ ومفاهيمَ وتقاليد، تشهدُ على نِظرَةِ من سبقونا، إلى الحياة. تراثٌ ماديٌّ، مبنيٌّ ومنقولٌ، وتراث معنويٌّ.
والتراثُ المدينيُّ والمعماريُّ، هو الإرثُ الحضاريُّ لمجتمعٍ ما. فالمدينةُ، والعِمارةُ، هما مرآةُ هذا المجتمعِ. والإرثُ هذا، هو وثيقةٌ تاريخيَّةٌ، وحقيقةً ثقافيَّة.
وانطلاقاً من هذه القيمِ، تُحدَّدُ مكانةُ أجزاءِ المُدنِ التاريخيةِ والتراثية في حياةِ الناس. وتُؤكَّدُ قِيمَتُها الحضاريَّةُ للإنسانية. إن هذه المُقاربَة، تَفترضُ منهجاً يقومُ على مناسيبَ ثلاثة:
الأول: المحافظةُ على هذا الإرثِ الثمين.
والثاني: ترميمُه، مُدركين التراكُمُ الظَاهِر فيه.
والثالث: تأهيلُه وإعادةُ استعمالِه.

III ــ بأي حالٍ وصلتْنا الأجزاءُ التاريخيةُ في بعض المدنِ العربيَّة؟

بأية حالٍ وصَلتْنا الأجزاءُ التاريخيَّةُ في بعضِ المدنِ العربيَّة؟ معظم المدنِ الهامَّةِ في الوطنِ العربيِّ، هي مدنٌ تاريخيَّة. انتقلت إلينا أَجزاؤُها بتحوُّلاتِها المتَواصِلة، وظلَّ مركزُها يقومُ بوظائفهِ الثلاث، الدينية، والمدينية التجارية، والحكم. ومن هذا المركزِ، تنطَلِقُ الدروبُ إلى الأحياءِ السكنيةِ في الأطراف. وتميَّزت الأجزاء التاريخيَّة هذه، بتكَامُلِها مع بيئتها الطبيعية والثقافية، وبأصالةِ انتمائها.

إنها خاصياتٌ ظاهرةٌ، أذكرُ بعضَها مكرِّراً:
* تمركزُ النشاطاتِ التجاريَّةِ في الأسواقِ التقليدية وحَولَها.
* تواصُلُ النسيجِ المبنيِّ كثيفاً ومُتلاصِقاً، الدروبُ فيهِ مجالاتٌ للمُشاة.
* ديمومةُ الدلالاتِ الإسلامية، يُعبِّر عَنها تعدُّد المساجدِ، وبعضُ مُكمِّلات العبادةِ، مثل أقنيةِ المياه، والنوافير.
* تعدُّدُ الإجاباتِ التي تُعالجُ مسألةَ الحرارة ِفي الأمْكِنة.
ومن هذه الإجاباتِ، ضيقُ الدروبِ وتعرُّجُها، بما يؤمِّن الفُسحاتِ المظلَّلةَ، وحِمَايةَ الواجهاتِ من الشمسِ. ويسمحُ للهواءِ وقد انخفضَتْ حرارتُه ليلاً، بالاحتفاظِ بهذه الحرارةِ خلالَ ساعاتِ الصباحِ.
ومن هذه الإجاباتِ أيضاً، الأفنيةُ الداخليةُ المفتوحَةُ، التي تشكِّل رُبع المساحاتِ المبنيَّة، واكتشافُ وسائلَ إضافيَّة للتهوئة، مثلَ ملاقِفِ الهواءِ.
إلا أن الاحتلالَ الكولونياليَّ غَزانا باكراً في الجزائرِ (1832م)، في عدن (1837م)، وفي مصر(1888م). وفي أوائل العشرينات من القرن الماضي، في سوريا ولبنان وفلسطين، والعراق وغيرها.
قَطَـعَ الاحتـلالُ الكولونياليُّ التطوُّرَ الطبيعيِّ لمدُنِنا، وأسقَطَ فوقَ نَسيجِها المبنيِّ، تنظيماً مُغرِّباً، صَاغَهُ منظِّمو المدنِ الذين جاؤوا معه.
- فحاصرَ مدينةَ عدن التاريخيَّة (كريتر)، في موقِعها الطبيعيِّ لصيقةَ الصهاريجِ، تُجمع فيها مياهُ السيُول.
- وهدمَ أجزاءً من النسيجِ التقليديِّ المبنيِّ في بيروت، وبنى مدينةً كولونياليةً مستوحاةً من النمطِ الهوسمانيِّ.
- وطالَ القطعُ الفجُّ في تواصُلِ النسيجِ المبنيِّ المدينيِّ تونسَ (العاصمة)، والجزائرَ (العاصمة)، والدارَ البيضاء، وحلب، وغيرها.
- وفي لِهاثِها وراءَ الحداثةِ، لجأتِ السلطاتُ المحليةُ، إلى منظِّمي مدنٍ من البلدان التي استعمرتْنا. جاء إيكوشار، وإيغلي، ودوكسيادس، وغيرهم. جاؤوا حَامِلين ميثاقَ أثينا، ومخطَّطاتِ التنظيم المديني «الحديث»، ومعَهُم الجَّرافَاتُ، ليحوِّلوا مُدَننا إلى مُسطحاتٍ فارغةٍ، يُقيمونَ فوقَها مُدناً تنقلُنا إلى «جنَّةِ الحداثة».
إلا أن مقاومةً محليَّةً استطاعت أن تَحدَّ من النتائجِ الكارثيَّةِ لِهذه المخطَّطات. وتَّمت المحافظةُ على أجزاءَ هامةٍ من مدننا التاريخية.
ففي تونس، تُغطِّي المدينةُ القديمةُ (القصبةُ)، مساحةً تُقدَّر بمئتين وسبعين هكتاراً، ويسكنُها ويعملُ فيها ما يقارِبُ المئتي ألف نسمة. وقد تَّمت حمايةُ المدينَةِ القديمةِ، وسُجِّلتْ في لائحةِ التراثِ المبنيِّ العالميّ.

أوقف الاحتـلالُ الكولونياليُّ التطوُّرَ الطبيعيِّ لمدُنِنا، وأسقَطَ فوقَ نَسيجِها المبنيِّ، تنظيماً مُغرِّباً


ثمَّة حالة مشابهة في مدينةِ حلب، حيث تُغطِّي المدينةُ القديمةُ مساحةً تُقاربُ الأربعماية هكتار، تتجاورُ فيها المعالمُ المِعمارية، الزِنكيَّةُ، والأيوبيَّةُ، والمملوكيَّةُ، والعثمانية. وقد سُجِّلت المدينةُ القديمةُ في لائحةِ التراثِ المبنيِّ العالمي.
وفي فاس في المغرب، سُجِّلت المدينـةُ القديمةُ في لائحة التراثِ المبنيِّ العالميّ. وتبلُغُ مساحتُهـا ست ماية هكتار، ويعيشُ فيها ما يُقارِب المايتين وخمسين ألف نسمة.
كما سُجِّلت القاهرة التاريخية في لائحةِ التراثِ المبنيِّ العالمي. وهي نموذجٌ حيٌّ عن تراكُمٍ تاريخيٍّ، لحقباتٍ مختلفةٍ في الحضارة ِالاسلامية. مَعالمُ مِعماريةٌ فاطميُّة، وأيوبية، ومملوكيةٌ، وعثمانية، عددها ست ماية معلم، وعددُ سكانها التقريبيِّ، مليون نسمة.
وفي الجزائرِ العاصمةِ، تُشكِّل المدينةُ القديمةُ أي «القصبة» نواةَ المدينةِ بكاملِها. وفيها ألفٌ وسبعُ ماية مسكن، منها ألفٌ ومايةُ مسكن تعودُ إلى الحقبةِ العثمانية، يسكُنها حوالى سبعين ألف نسمة.
أما بيروت التاريخيَّة، فتقدَّر مساحتُّها بماية وعشرين هكتاراً. وقد هدَّم الكولونياليون أجزاء منها، وعبِّدوا شوارع جديدةً حَملتْ أسماءَ كبارِ ضُبَّاطِهم، وبنوا مدينةً كولونياليةً على الطرزِ الهوسمانيّ. وهدَّمت «سوليدير» كلَّ ما تبقَّى من الإرثِ المَملُوكي والعُثماني، وهجَّرت مايةَ وخمسة وثلاثين ألف نسمةٍ.

IV ــــ لماذا نحافظُ على الأجزاءِ التاريخية المتبقية في مدننا العربيَّة؟

لماذا نحافظ على الأجزاء التاريخية المتبقية في نسيج مدننا العربية؟
نحافظ علـى هـذه الأجـزاء التاريخية، لأنها جزءٌ هام من تراثنا. نحافظ عليها، بعد التغيير فـي تعريفِ التراثِ، منذ ميثاق البندقية (فينيزيا- 1964)، وتأسيسِ الإيكُوموس (المجلس الدولي للمعالم والمواقع ـ 1965).
لم يعدِ التراثُ، حُكراً على المنشآتِ «النُّخبة» في فِعلِ البنيان. فهو أيضاً، مبانٍ أكثر تواضعاً، أمضَتْ فيها أجيالٌ سبقتنا، حياتَها.
لم يعدِ التراثُ مَعالمَ فرديةً فقط. بل أصبحَ أيضاً مجموعات ٍمن المباني، تمَّ الحفاظُ عليها بقرارٍ أو بالصِّدفة. وهي تُشكِّل شهادةً على طرقِ البناءِ وأنماطِ العيشِ، في الأزمنة السابقة.
الأجزاء التاريخية في مدننا العربيةِ، هي تراثيةٌ بامتياز. إنها إرثٌ أصيلٌ له قيمٌ متعددةٌ. نحافِظُ عليه، حرصاً على القيمِ التي تتجسَّد فيه.

وأولى هذه القيم، هي القيمةُ الجماليَّةُ:

نؤكِّدُ بثقةٍ، أن القصورَ والدورَ في فاس ومرَّاكش، هي جميلة، وأن الجامع الأمويَّ في دمشق، وجامع عقبة بن نافع في القيروان، هي مبانٍ جميلة أيضاً. والدور السكنيةَ العتيقَةَ في حلب، وفي دمشق، وفي بيروت، وفي القاهرة، هي جميلة. والنسيجَ المبنيَّ عندنا، سوف يكون مضجراً، إذا أزيلت منه الأعمالُ المعماريةُ الرائعةُ، التي أُضيف إلى قيمتِها الاستعمالية، القيمةُ الإستاتيكية، أو الجمال.
المسألةُ الأولى في الحفاظِ على التراث، هي الحفاظُ على الجمالِ الذي يختزِنُه.

القيمةُ الثانية، هي القيمةُ التاريخيةُ:

التراثُ هو شهادةٌ من الماضي. إنه استمرارُ الماضي في الحاضرِ، ومَصدرُ معرفتِه، وهو بالتالي قيمةٌ تاريخيَّة. وعلينا أن نفهمَ تاريخنا العربي الإسلاميَّ، بكلِّ الأفعالِ التي تراكَمت فيه. إن صفحاتٍ كاملة من تاريخِ البشريَّةِ ستزولُ، لو زالتْ المعالمُ المبنية المدهِشَةُ في القاهرة، وفاس، ومرَّاكش، وحلب...
أن نُزيل هذا التراثَ ــ التاريخَ، هو أن نَمحي من ذاكرتِنا، ومن ذاكرةِ الإنسانية، صفحاتٍ ضروريةً لفهمِ هذه الذاكرة. لأنَّ كل تصرفاِتنا وقراراتنا ترتكزُ إلى ثَراءِ ذاكرتِنا.

القيمةُ الثالثةُ هي القيمةُ المدينيَّةُ والمعمارية:

أخشى التكرارَ إذا قلتُ، إنَّ في التنظيمِ المدينيِّ في حلب، وفـي دمشق، وفي تونس العاصمة، وفي غيرها، تلتقي عبقريَّةُ التأليفِ مع عبقريةِ المكان، فتُنتِجُ التنظيمَ المدينيَّ التقليديَّ التراثيَّ، والعِمارة التقليديةَ التراثيةَ.
لن أكرِّر ما قلتُه حولَ الدروبِ المتعرِّجة.

هدَّمت «سوليدير» كلَّ ما تبقَّى
من الإرثِ المَملُوكي والعُثماني
في وسط بيروت

- سأكتفي بالإشارةِ، إلى المفاجآتِ التي تُصادِفُها وأنتَ تسيرُ في هذه الدروبِ، فتُوصِلُك إلى أبوابِ البيوتِ، أو تُعيدُكَ الى المكانِ الذي انطلقتَ منه.
- سأكتفي بالإشارةِ إلى الجُدرانِ تنبتُ من البلاطِ، وتنظِّمها الأبوابُ، والمشربيَّات الناعمة.
- سأكتفي بالإشارة، إلى إيقاعِ أبوابِ المساجدِ في امتدادٍ مَسارِكَ. بابُ المسجدِ من الحَقبة الزنكيَّة هنا، وبعدَه، بابٌ لمسجدٍ من الحقبة الأيوبية، يليه باب لمسجدِ من الحقبةِ المملوكية. الدلالات واحدة، إلا أن الزُخرُفَ في خشب ِالأبوابِ مذهلٌ في اختلافاتِه. وتُفاجأ إذا صَعْدتَ درجاً في فُتحةٍ، يتدفَّقُ منها ضوءُ النهار ِشلاَّلاً، إذ يوصِلُكَ الدرجُ إلى فناءٍ مشجَّرٍ في أطرافِه، وأمَامَك مسجدٌ من الحقَبة العثمانية.
اجتزتَ قروناً، وأنتَ تَسيرُ في دربٍ تنظِّم جُدرَانَه، الأبوابُ المزيَّنة، والفتحاتُ الصغيرة.

القيمة الرابعةُ، هي القيمةُ الاجتماعيَّة:

تناولتُ الأجزاءَ التاريخيةَ التراثِيةَ في مُدنِنا العربية، ورأيتُ فيها نسيجاً فريداً في أصالته، وعِمارة مميَّزة. سأتوقَّفُ عند كونِ هذا النسيجَ، نسيجاً حياً. الناسُ يَسكنونَ فيه ويَعملون. واللافت، هو أن الكثافة السكانية فيه مرتفعة.
يتملَّكُ الناسُ الأمكنةَ التي يعيشون فيها، فتنشأُ بينهُم علاقاتٌ إنسانيةٌ لصيقةَ إنسانيتهم. كما تنشأُ أيضاً، علاقاتٌ موازيةٌ ينسُجُها الناسُ مع الأمكنةِ حيثُ يُقيمون. يألفون المباني، يتلاقون في المقاهيِ وفي الدكاكين وفي الساحات، وينتظرونَ الربيعَ، يطرِّزُ الأشجارَ بالزهور.
إن استمرارَ هذِه العلاقاتِ، هو ضروريٌّ لتوازُنهم. وكلُّ تدميرٍ لهذا النسيجِ المبنىّ، سوف يدمِّرُ معه النسيجَ الاجتماعيَّ. وسيفقدُ الناسُ توازنهم إذا ما أُجبروا على مغادرةِ الأمكنة.
فالحفاظُ على النسيج المبنيِّ التاريخيِّ التراثيِّ، يَعني الحفاظُ على النسيجِ الاجتماعيِّ الذي يسكُنه.
قد يريدُ البعضُ الانتقالَ إلى مساكنَ جديدة، مُشمِسَة، مُطلَّة. ولكن...؟ ماذا عن الذين يريدون الاستمرارَ في مَساكِنَ، يَشعُرونَ فيها بالانتماءِ وبالهُوية؟ ماذا عن الذين لا يُريدونَ العيشَ في أقفاصٍ زجاجية؟
للتراثِ التاريخيِّ المبنيِّ قيمةٌ اجتماعيةٌ مُزدوجة، فهو ضرورةٌ للحفاظِ على النسيجِ الاجتماعي الذي يسكنُ فيه، وهو ضَروريٌّ، لكلِّ من يرغبُ في السكنِ في مجالاتٍ يشعرُ فيها بالانتماءِ. وفي الحالتين، أن نؤمِّن للناسِ إطاراً للحياةِ ملائماً لتطلُّعاتهم، هو ضروريٌّ لتوازُنِهم.

القيمة الخامسةُ، هي القيمةُ الرمزيَّةُ، قيمةُ الذاكرةِ الجَماعية، قيمةُ الهُوية والانتماء:

مُعظَمُنا يعرفُ حلبَ، فهل يقبلُ أحدُنا أن تُهدمَ قلعتُها؟ أو أن تبقى أسواقُها مهدَّمة؟! وفيها دكَاكينُها، وحمَّاماتها، وخاناتها؟
ومعظمُنا يعرفُ دمشقَ، فهل يقبلُ أحدُنا أن يُهدمَ الجامعُ الأمويُّ؟ أو أن تُهدمَ سوق الحميدية بمتفرعاتها؟
وكلُّنا نعــرف ديرَ القمـــرِ، وبيتَ الدين، وجبيل، وصيدا. ولكن...! هل يُمكِن لواحِدنا أن يتصـوَّر ديرَ القمرِ وقد هُدِمَ فيها قصرُ فخر الدين؟ أو أن بيت الدين، قد فَقَدتْ قصر الأمير بشير؟
هل يمكنُ لأي لبنانيٍّ، أن يَحلُمَ بجُبَيل بدونِ قلعتِها، وبدونِ المرفأ الفينيقيِّ؟
هل يُمكِنْ لأي صيداويٍّ، أن يتصوَّر الأفقَ خالياً من قلعةِ البحر؟
سيَهْرع الصيداويون ليتفقَّدوا خانَ الإفرنج، وساحةَ بابِ السراي، ومَقهى الزجاج. سيفتشون عن البيوتِ المتلاصِقة، عن نوافيرِ المياهِ، عن الأدراجِ المعلَّقةِ على الجُدران.
والطرابلسيون لن يكونوا، في حالةٍ أفضل، إذا ابتلعَ زلزالٌ سوقَ الخيَّاطين، وسوقَ النجَّارين، وسوقَ الصاغَةِ، وجامع طينال.
كلُّ المعالمَ، والمجموعاتِ المبنية التي ذكرت، هي رموزٌ للأمكنةِ حيثُ تقومُ. إنها رموزٌ للمُدُن. وانتماءُ الناسِ إلى مُدُنِهم، هو عَبْرَ ديمومةِ الرموزِ فيها. وللرمزِ هنا، قيمةٌ اجتماعيةٌ عُظمى. فهو دلالةُ الانتماء، وحامِلُ الهُوية. وهو، مكانُ الذاكرةِ الجَماعيَّة بامتياز. والذاكرةُ الجماعيَّةُ هي أحدُ روابطِ الناس الأساسية.

أما القيمةُ السادسةُ، فهي القيمةُ التعليمية:

أنتقلُ إلى مسألةِ دورِ المُحافظةِ على الأجزاءِ التاريخيَّةِ والتراثيَّة في مدننا العربية، في تعليمِ التنظيمِ المدينيِّ، وتعليمِ العِمارة. لقد سادَت في أوائِلِ الستينات، نظرياتٌ تقولُ، إنه لننتِجَ عِمارةً جيِّدة، علينا أن نَمحي كلَّ شيءٍ من ذاكِرتنا. كانَ يقالُ للطلاَّب إن مخيلَّتكم، ستَخلُقُ كلَّ جديد. نعلمُ اليومَ، أن هذه التأكيدات غير صحيحة. أذ ثَبُتَ للمختصِّين، أن الوليد الجديدَ غيرُ قادرٍ على التخيُّل، لأنَّ ذاكرتَه فارغة، وأن ما نتخيَّلَه يُبنى على ما تختَزِنُه ذاكرتُنا.
أرى في هذه التصحِيحَاتِ العِلميَّة، أنَّ الحفاظَ على الأجزاءِ التاريخيَّةِ والتراثية في مدننا، هو الضمانةُ لإنتاجِ مدينةِ المستقبل، وعِمارتها. ذلك أننا نعلمُ، أن «التنظيم المديني الحديث»، هو تنظيمٌ مديني كارثيٌّ. ونُدركُ في ضوءِ ذلكَ، أنه، للتوصُّلِ إلى الملائمٌ لمجتمعاتِنا العربيةِ، علينا أن نَبحثَ في التنظيمِ المَدينيِّ الموروثِ، وفي العِمارةِ التراثية. لا لننقُلَها، بل لنتعلَّم منها، ولنُوسِّع قدُراتِنا على الاختيار، وعلى التجديد في آن.
إذ أن لما هو موروثٌ في هذا الحقلِ، قيمةٌ تعليميةٌ هامَّة. وكلُّ تدميرٍ لهذا الإرثِ، يعني إفقارُ مصادِرَ التكوينِ عند الأجيالِ القادمة.

أما القيمةُ السابعةُ، فهي القيمةُ الاقتصاديَّةُ:

يعتقدُ البعضُ أن الحفاظَ على التراثِ، بالترميمِ والتأهيلِ والصيانةِ، هو مصدرُ إنفاقٍ فقط. ولكن إذا نظرنا في جدوى هذا الإنفاق، نجدُ أنَّ فيهِ دخلاً أيضاً. فالآثارُ والتراثُ في اليمن، ومصر، وسوريا، ولبنان، وتونس، وغيرها، هي الركيزةُ الأساسُ، التي تقـومُ عليهـا السياحةُ فـي هـذه البلدان.
والآثار والتراثُ، يشكِّلان ثروةً سياحيةً حقيقيـة. وهي مصـدرٌ لا ينضبُ، للدخـلِ.
وأعمالُ الصيانةِ، والترميمِ، والتأهيلِ، هي أعمالٌ يدوية، تُحافِظُ على المهاراتِ المَوجودةِ وتجدِّدُها. تخلُق فُرصَ عملٍ، وتُحافِظُ على الحِرَفِ التقليديَّة وعلى منتجاتِها، وتجعلُ منها منتَجاً اقتصادياً مُربحاً، بما يَرقَى بالحرفيين، ويجعلهُم يُدركون قيمةَ عَملِهم الوطنيَّة، والإنسانية.

V ــ ماذا في الخلاصة

سأقتبسُ خلاصتي، من نصٍّ أُلقيَ في بيروت، منذ بِضع سنوات.
رأى المتحدِّث، أن الحضورَ الماديَّ للبعدِ الزمنيِّ، عَبْرَ المَعلمِ، هو استجابةٌ لحاجةٍ إنسانية. فالإنسانُ هو كائنُ ذاكرة، وبالإستعانةِ بذاكرتنا، نُفبرك المستقبل. وسيفاجئنا دماغُنا، حيثُ توجدُ ذاكرتُنا، بأنه الشيءُ الاركيولوجيُّ، الأكثر إدهاشاً على سطحِ الأرض. إنَّنا لذلك، نَحمِلُ في بنيتِنا حضوراً للزمنِ، ونَعملُ دائماً لإيجاد بيئةٍ متوازنةٍ، نُحافِظَ فيها على هذا الحُضورِ، أي أن نُحافِظَ على الذاكرة. وتُصبحُ الذاكرةُ من هذا المنظورِ حاجةً إنسانية، مثل التعليم، والصحة.
ماذا في الخلاصة إذاً؟
في الخلاصةِ، أن الحفاظَ على التراثِ ليس موضةً أو لَعِباً. إنَّه الاستجابةُ لحاجةٍ إنسانيةٍ رئيسة. وإذا أَصبحَ الإنسانُ عَبْر الزمنِ، إنساناً عاقلاً، فذلك حدثَ بالتحديدِ، لأنهُ يملِكُ ذاكرةً واعيةً يستعينُ بها، وهي عندَه مصدرُ المخيِّلةِ، والاكتشافِ، والتجديد.
إذا أردنا أن يستمرَّ الإنسانُ في مسيرتِه على دربِ العقل، فمِنْ واجبِنا الحفاظُ على شواهدِ الماضي.

المراجع:

1- رفعة الجادرجي: «في سببية وبنيوية العمارة».
2- رفعة الجادرجي: «حوار في بنيوية الفن والعمارة».
3- أماني السيد عبد الرحمن: «المواثيـق والتوصيـات الدولية للتعامل مـع التراث المعمـاري والعمرانـي».
4– د. أحمد صلاح الدين عوف: «مفاهيم الحفاظ العمراني لألفية جديدة، فـي دولة الإمارات العربية المتحدة».
5- رهيف فياض: «العمارة ووعي المكان».
6– رهيف فياض: «العمران والذاكرة، العمران والوهم».
7 - Claude Chaline : Les villes du monde arabe.
8 – Raymond Lemaire : Patrimoine et lendemain.
9 - La Charte De Venise
* معمار وكاتب لبناني