يفترض المقام بداية أخرى بالطبع. في مقام الموت، تصبح كلّ الأشياء لاحقة وتابعة، حتى الكلام يفقد الكثير من دهشته. إلا أنني سأتخطى هذا الفعل، كي أبدأ بواحدة من ضحكات عصام العبدالله في يوم رحيله، وهو مَن كان لا يتوقف عن تأجيج ابتسامات الحاضرين، كلّما اجتمعوا في حضرته. لا بدّ للنُكتة المقطوفة، من تلك اللحظة الآنية، أن تكون سيدة جلساته. كان يقطفها تماماً مثلما يستلّ من الغيم اللحظة الشعرية ليكتبها باللغة التي اختارها: العامية. كان يردد دوماً أن الكتابة بالعامية تحتاج فعل شجاعة في ظلّ هذا المحيط من الكتابة بالفصحى الذي يلفنا.
هذه الشجاعة لم يعرفها، بداية، سوى تلاميذ عصام العبد الله الذين مرّوا من أمامه ذات يوم، في إحدى ثانويات بيروت الرسمية. حركاته واندفاعه وجسمه الطويل وصوته العالي النبرة وتصفيفة شعره المقلوب إلى الوراء، جعلت التلامذة يلقبونه بـ «طرزان». كانت الثانوية أشبه بغابة زمن الحرب الأهلية، وهو كان على استعداد ليصارع الجميع، لدرجة أنهم نسوا اسمه الحقيقي ليتحول اللقب الذي أطلق عليه، إلى كلمة سرّ بين الطلاب. تبدلت كلمة السرّ هذه إلى «أبو حازم»، حين شبّ بعض تلامذته وبدأوا يكتبون بدورهم، وحين بدأوا يلتقون به في المقهى أو في بعض النشاطات الثقافية التي تعرفها المدينة. كأن طرزان لم يكن سوى تهويم من تهويمات الطفولة والمراهقة. أما الانخراط في «الثقافة»، فيحتاج إلى «متانة» أخرى مختلفة.
لكن «طرزان» الغابة، لا يجيد كتابة الشعر. الكلام بحاجة إلى رقة قلب. وقلب عصام رقيق إلى أقصى الدرجات، حتى إنه توقف عن النبض، تاركاً أصدقاءه في المقهى، وفي الحياة، ليشعروا بكثير يُتمّ. القصيدة العامية اللبنانية تشعر بالفقدان بدورها، إذ كان من هذا الجيل الذي متّن شكل القصيدة (العامية) الجديدة، بعيداً عن الزجل. كان مرجعه الشعري الأوحد والأكبر المتنبي الذي لا يتخطاه أحد. لهذا بحث طويلاً قبل أن ينشر. لم ينشر كتباً كثيرة.

كان مرجعه الأوحد والأكبر المتنبي الذي
لا يتخطاه أحد
بين ديوانه الأول والثاني، عشر سنوات، وبين الثاني والثالث ما يزيد عن هذه الفترة. كان يردد أن الشعر صعب، وأنه يظن نفسه مسرعاً ومتسرعاً إذا استطاع أن يقدم كتاباً كلّ عشر سنوات. صعوبة الشعر برأيه، جعلته يجد أن الذين «يندلعون» بسرعة، نار عارضة. لأنه كان يبحث في الشعر عن نار سرّية لا تنطفئ. لهذا كان يعتبر أن فترة السنوات العشر، هي مسافة ضرورية لتمرين المخيلة على القفز.
القفز هنا، يحيل إلى صورة أخرى، غالباً ما كان يرددها «أبو حازم» عن الشعر. كان يشبّه شعراء النثر بأولئك الذين يقدمون الاستعراضات الرياضية الجميلة المليئة بالحركات المدهشة، لكن... على الأرض، أي على شيء ثابت؛ فيما كان ينحاز أكثر إلى من يجيد تقديم هذه الحركات المدهشة، على حبل معلق... في الفضاء. فكرة تختصر انحيازه إلى الشعر، إلى كيفية كتابة الشعر والتعاطي معه، مع العلم أنه لم يكن يميز ما بين الفصيح والدارج، إذ كان يجدهما حركتين للسان واحد. حركة اللسان هذه، جعلته يرتئي في كل مرة يصدر ديواناً جديداً، أن يصاحبه «شريط كاسيت» أو «سي دي»، فالإلقاء، جزء أساسي من طريقة الكتابة حتى لأخال أنه كان يلغي كلمات إن لم تتناسب مع طريقة اللفظ التي يريدها. طريقته هذه، كانت تفرد مساحة إضافية للشعر. لم يميز بينهما يوماً. هما صنوان لا يفترقان. أيضاً وأيضاً سأنحو هنا إلى مقام الصوت، (فيما لو استعرت عنوان كتابه الثالث) بدلاً من مقام الرحيل. في إحدى أمسياته، ألقى قصيدة له بطريقة مدهشة. قصيدة كانت تحولت إلى أغنية. أجاد أبو حازم في القراءة، كأنه أراد أن يذكر الحضور بأن الأغنية ليست شيئاً من دون النص. بعدما انتهى، اقترب منه الصديق ناصر عجمي قائلاً: «إلقاؤك يساوي مليون أغنية»، فصرخ عصام طالباً من الجميع الإنصات لما يقال.
بين اسمين، امتدت حياتنا مع عصام العبدالله. ليس هو من يغادرنا اليوم، بل ربما نحن الذين نرحل، كي نقرأ القصيدة جيداً.