«الشرق يلتقي الشرق» عنوان أمسية موسيقيّة فريدة من نوعها في الآلة والنغم يحييها كلّ من عازف الناي بشير سعادة وعازف الشاكوهاتشي، أي الناي اليابانيّة، كايل كمال حلو مساء اليوم في مركز اليوغا «سارفام» في الجميزة. أقلّ ما يمكن قوله هو أنّ العازفَين متعدّدا المهارات والمهن. بشير سعادة (1980) عازف ناي منذ أكثر من 20 سنة ومتخصّص في آلات النفخ، كما أنه أستاذ محاضر في «جامعة ستيرلنغ» في اسكتلندا.

أما كايل كمال حلو (1973) الذي يقيم حاليّاً في لبنان، فهو مدرّب الكاراتيه اللبناني والأجنبي الوحيد الذي تخرّج من معهد Japan Karate Shoto Federation التقليديّ المرموق في اليابان، وعازف وأستاذ شاكوهاتشي منذ 20 سنة وخريج معهد Chikumeisha في اليابان أيضاً.
يأتي اللقاء الفنّي بين سعادة وحلو بعد تجربة أولى عام 2012 في بيروت، بمحض الصدفة والتساؤل عمّا يمكن أن ينتج عن لقاء آلتي نفخٍ شرقيّتين بجغرافيّتهما، ولكن مختلفتين بنغمهما وبفهرسهما الموسيقي. بقيت هذه الحشريّة في نَفسَي الموسيقيّين لتغذّي الرغبة في تكرار التجربة، ولكن بنضج أكبر ومَلكيّة أثبت هذه المرة.
يقول بشير: «عندما التقيت وكمال موسيقيّاً، أحسسنا كأننا نبحر عكس التيار، إذ حاولنا أن نقيم حواراً للمرة الأولى بين الناي والشاكوهاتشي. كان اللقاء الأوّل خجولاً نوعاً ما، فكلّ من الناي والشاكوهاتشي تفرض شخصيّتها وتتشبّث بجماليّاتها التقليديّة. الشاكوهاتشي حادّة ومركّزة، أمّا الناي فمتحرّكة ودافئة. ومع ذلك، فأوجه التشابه بدت واضحة لنا، أوّلها في الشقّ الإيحائي ورموزيّته وما يفضي إليه الصوت في تعزيز حالات التأمّل والتواصل مع الذات عبر النغم». ويعقّب كايل: «مشروعنا الآن ناضج. حوار الآلتين أصبح مألوفاً. أنا أعزف مقطوعات موسيقيّة موجودة أصلاً، لا ارتجال فيها. أما بشير، فيعزف مقامات بطريقة تحاكي الشاكوهاتشي. الحوار انسيابي لا مواجهة فيه بين الطرفين. لا مبارزة، بل حوار نكتشف رموزه ونحاول أن نفكّك حيثيّاته».
أمّا عن مساحة الطرب في هذه الأمسية، فيؤكّد بشير بأنّ «للطرب مكانة في عزف الناي، هذا أكيد. لكن ليس هدفنا بلوغ حالة طربيّة في لقاء الناي مع الشاكوهاتشي. ذلك أن الناي المتحرّكة والمتفلّتة بالمقارنة مع رصانة الشاكوهاتشي، هي التي تلحق بالأخيرة، ترافقها، تستمع إليها ومن ثمّ تقرّر وقت دخولها وبالتالي انسحابها وسكونها. في مرافقتي لكايل، أنطلق من مقامات متعدّدة كالبيّاتي والحجاز والراست والصبا، لكنّي قد لا أعلم أين أنتهي! موسيقى الناي حرّة متفلّتة بمعنى تتيح المساحة للارتجال وإضافة الزخرفات الموسيقيّة والعِرَب والقطب المتشابكة».
يعلّق كايل غامزاً: «أمّا أنا فأعرف أين هي البداية والنهاية، في منهج ياباني واضح ومقولب. لذلك، يمكن للطرب أن يحدث في نفخ الشاكوهاتشي لكنه محدود. المقطوعات الخاصّة بهذه الآلة محدّدة كما عزْفها. حريّة العازف ظاهرة ويسقط صبغته الخاصّة على مقطوعة كلاسيكيّة عُزفت آلاف المرات قبله. ولكن مقطوعة الشاكوهاتشي تبقى رصينة لا مجال فيها للارتجال أو التعقيب على ما ليس مكتوباً في المقطوعة».
في تاريخ الآلتين، تروي الأساطير قصّة ترحال جرت منذ عقود مضت، من شرق إلى شرق. فالناي المصنوعة من القصب والمفتوحة عند طرفَيها، قديمة بقدم الإنسانيّة ربما، وتُعزف في المشرق العربي والخليج وأفريقيا الشماليّة كما في إيران، تركمانستان حتى منغوليا. وكانت الناي شقّت طريقها إلى الصين عبر طريق الحرير، حيث تطوّرت وتقولبت عبر العقود، إذ يمكن أن تكون هذه الآلة سلف الشاكوهاتشي نفسها. ذاك أن الأكيد بأن الشاكوهاتشي وُلدت في الصين أوّلاً قبل أن تنتقل في مرحلة تالية إلى جزر اليابان.
لكنّ المثير عند قراءة التاريخ بأن غايات ليست بحت موسيقيّة تجمع ما بين الآلتين. تروي الأسطورة بأن أصل الشاكوهاتشي يعود إلى القرن التاسع ومرتبط براهب بوذي صيني اسمه «فوكيه» ألهم مجموعة «الهونكيوكو»، أي مقطوعات الشاكوهاتشي الأصليّة التي كان يعزفها «الكوموسو»، أتباع طائفة الزن البوذيّة بهدف بلوغ مقامات روحيّة. وبهذا، اعتمدت الشاكوهاتشي كآلة وسيلة لاتباع نظام روحي، تجمع فيها رموزيّات اليينغ واليانغ والجوهر الكوني ككلّ.
وللناي مكانةٌ مشابهة إذا ما أخذنا القرن الثالث عشر مع طائفة «المفليفي أيين» الصوفيّة التي أسّسها جلال الدين الرومي، وعرّف الغرب عن أتباعها بـ «الدراويش الدوّارين». والمنهج الموسيقي الذي اعتمده الدراويش في القرن السابع عشر، يرتكز أساساً على النفخ في الناي، ترافقها إيقاعات على الدفّ والرق، في مستوى ثانٍ. وهي تقريباً الفترة الزمنيّة نفسها التي تركّزت فيها طائفة الكوموسو وشرعت بعزف مقطوعاتها الأصليّة كوسيلة للتنوّر.
قلّما يفضي الحديث عن آلة موسيقيّة إلى تساؤل فلسفي وروحاني كما فعله لقاء الشرقين في الناي والشاكوهاتشي. ربّما تكمن هنا أهميّة ما يقيمه كلّ من بشير وكايل في هذه التجربة الفنيّة. أن يرتقي بشكلٍ تصاعديّ شعور السامع من النوتة، إلى المعزوفة، إلى النغم، إلى العاطفة، إلى التأمل فإلى الإدراك للجوهر الإنساني فالكوني. موسيقيّاً، يتمنّى العازفان أن تتكرّر التجربة لتصبح مشروعاً موسيقيّاً يلاقي اهتمام جمهورٍ ذوّاقة ومرهف الأذن والإحساس، يتحلّى بحشريّة لموسيقى يكمن سحرها في خلق المشتَرك في فضاء الاختلافات والتناقضات.

«الشرق يلتقي الشرق»: 19:00 مساء اليوم ــ مركز «سارفام» لليوغا ـــ الجميزة. للاستعلام: 01/301303




ما بين الشاكوهاتشي والناي

الناي مصنوعة من القصب، أما الشاكوهاتشي فمن قصب البامبو. يُنفخ في الأولى عند طرف الشفتين فتُحمل بطريقة مائلة. أما الثانية فينفخ فيها مباشرة وتُحمل بالتالي مستقيمة موازية لجسم العازف. للناي ستّة ثقوب من الجهة الأماميّة وثقب واحد من الخلف، في حين أن للشاكوهاتشي أربعة من الأمام وواحد في الخلف. كلتا الآلتين مفتوحتان عند طرفيهما، فإحداث الصوت والنغم متعلّق بوضعيّة الشفتين على الطرف الأعلى ومهارة التحكّم بنفخ النفس فيهما.