غاب صلاح دهني (1925- 2017)، منذ أيام، طاوياً رحلة طويلة مع السينما، من دون أن يتخلى يوماً عن بوصلته في تأسيس وعي جمالي ومعرفي للصورة، على خلفية مغامرته المبكرة في دراسة السينما في جامعة «السوربون» في باريس، في خمسينيات القرن المنصرم. في تلك الحقبة العاصفة بالانقلابات العسكرية، كان هذا الناقد والمؤرخ السينمائي الرائد على موعدٍ أسبوعي مع مستمعي إذاعة دمشق، عن أهمية السينما كرافعة ثقافية مهمة في تنمية الذائقة، غير عابئ بالبيانات العسكرية عن نجاح هذا الانقلاب أو ذاك. سوف ينخرط بمغامرة أكبر، حين أطلق أول مهرجان سينمائي في دمشق الخمسينيات، مواكباً أيام «معرض دمشق الدولي»، إلا أن هذه التجربة كانت يتيمة، فأجهضت في مكانها بسبب مصاعب إدارية، وسوء تقدير من الجهات المعنية لأهمية مثل هذا المهرجان. حادثة اعتقاله في سجن المزّة العسكري، أيام الوحدة السورية المصرية لم تحبط مشاريعه. ما أن خرج من السجن، بعد ثمانية أشهر، حتى انكب على مشروع تأسيسي لإطلاق دائرة السينما في وزارة الثقافة، لتتحوّل لاحقاً، إلى «المؤسسة العامة للسينما».

وهنا كان على السينمائيين مواجهة عقلية العسكر في فهم أهمية السينما كجزء من الحراك الثقافي، وصولاً إلى انطلاقة مضادة بعقلية منفتحة، أتاحت ظهور تجارب نوعية فرضت حضورها على المهرجانات العربية والدولية. لم يتوقّف السينمائي الراحل عن مواكبة تاريخ السينما السورية في كافة محطاتها، إذ أرّخ لبدايات هذه السينما بأكثر من كتاب مرجعي مثل «قصة السينما في سورية»، و«الحب الذي كان»، مازجاً الوثيقة بالرأي النقدي الرصين، ومتطلعاً على الدوام، إلى ما هو مضيء في هذا الشريط أو ذاك، أكثر من عنايته بالعثرات، من موقع الشغف وحده بسحر السينما وجمالياتها البصرية، وحفرها في الوعي. على هذا المنوال، أنجز أكثر من شريط وثائقي، بالإضافة إلى شريط روائي يتيم هو «الأبطال يولدون مرتين» (1977)، إلا أن الأخير لم يلق نجاحاً، فالتفت إلى النقد في الإذاعة («صوت وصورة»)، وفي التلفزيون («عالم السينما»)، كما ترأس إحدى دورات «مهرجان دمشق السينمائي»، في منتصف الثمانينات، قبل أن يتخلى المهرجان عن شعاره «نحو سينما تقدمية» لينزلق لاحقاً إلى لوثة «الدولي» من دون أن يحقّق اعترافاً بدوليته إلى اليوم.
في كتابه «الحب الذي كان»، يشنّ هجوماً عنيفاً ضد الولادة الهجينة لهذا المهرجان ومقاصده الجديدة في البذخ والاستعراض والسياحية، داعياً إلى العقلانية في إطلاق الشعارات الرنّانة. كان حلم صلاح دهني تأسيس «سينماتك» سوري. كافح طويلاً من أجل تحقيق هذا الحلم، بقصد حفظ أرشيف الأفلام، قبل أن تتلف في المستودعات، أو تُفقد أصولها، خصوصاً الأشرطة الوثائقية التي أُنجزت في مرحلة الانتداب الفرنسي، وبداية استقلال البلاد، وهو ما حدث فعلاً. لكن حارس السينما السورية، لم يتوقف عن طرح الأسئلة الحارة لحماية هذه السينما، وترميم الثغرات في تأريخها، على خطى معلمه الفرنسي جورج سادول. ففي كتابه الأخير «السينما السورية: مكاشفات بلا أقنعة» (2011)، يعود إلى ذكرياته عن فترة البدايات، وسحر الصالات، والتحولات الفكرية لدى صنّاع السينما، واحتضار قيم المهنة. لن تكتمل صورة صلاح دهني، من دون أن نتوقّف عند منجزه الإبداعي، سواء في الرواية (ملح الأرض/ 1972)، أو في القصة القصيرة، فهو أحد مؤسسي «رابطة الكتّاب السوريين» (1951)، وصاحب إحدى قصص المجموعة الأولى التي صدرت عن الرابطة بعنوان «درب إلى القمة»، وسينجز لاحقاً 5 مجموعات قصصية هي «حين تموت المدن» (1976)، و«الانتقال»، و«الصوت»، و«ربما غداً»، و«سمعان يا بيك» (2013). انطفأ صلاح دهني في أبو ظبي، مثقلاً بذكريات وأحلام وخيبات تسعين عاماً، من دون أن يكرّمه أحد بما يستحق!