«بدأت بهذا البحث منذ اللحظة التي قرأت فيها بحثاً تاريخياً للعراقي أحمد سوسة في كتاب أسماه «مفصل العرب واليهود في التاريخ». كان الرجل يهودياً ثم أسلم. لكن على ما يبدو، كان إسلامه غير حقيقي». بهذه الكلمات كانت بداية النقاش الطويل مع لطفي السومي.
الباحث والمؤرخ الفلسطيني القادم من عالمٍ متداخل من الأعمال والتجارب الحياتية، بدأ أبحاثه حول الأمر منذ أكثر من 17 عاماً، لكن كتابه «التوراة في مواجهة علم الآثار والدراسات التوراتية» (مكتبة مدبولي ــ القاهرة) الذي أطلقه قبل أيام في «دار النمر» في بيروت؛ بدأ فعلياً بكتابته قبل أربعة أعوام. «إنها المصادفة التي قادتني لطباعته في القاهرة. كنت أزور العاصمة المصرية، فقصدتُ إحدى أكبر مكتباتها التي هي «مكتبة مدبولي» للتأكد من أحد المصادر التي استعملتها في بحثي وهو كتاب «السحر في التوراة»، فلم أجده. وبالمصادفة، شاهدت مدير الدار، الذي رأى مخطوط كتابي بين يدي. سألني عن ماهيته فأخبرته، فسألني لِمَ لا أطبعه عندهم. أجبته بأن الكتب الدينية يُدقّق بها كثيراً في مصر وقد لا يسمح بطباعته. فقال لي بأن أترك المخطوط لأربعة أيام هناك، وهذا ما حدث. وكانت مفاجأتي أنّه قال لي: سنطبعه لك».
الكتاب الذي يقارب للمرة الأولى في المكتبة العربية، كتاب التوراة بعيداً عن «الخرافات» و«الخزعبلات» المعتادة، يطرح سؤالاً شديد الأهمية عن «حقيقية» هذا الكتاب، وماهية كونه «كتاباً بشرياً» أم «وحياً إلهياً». يفنّد الباحث القادم من جنين «كل أكاذيب اليهود والصهاينة بشأن تاريخهم وتاريخ المنطقة». يشرح السومي أنّ كلمة «إسرائيل مثلاً هي تركيب لكلمتين هما ميثاق إيل، أي اسرا وإيل. وإيل كما هو معروف هو رئيس مجمّع آلهة الكنعانين. بالتالي لم تكن إسرائيل كما يقول التوراة جندي الرب زكريا الذي باركه الإله بعدما صرعه». إذاً نحن هنا أمام أكاذيب مركبة ومصنّعة تقدّم للناس، كي تصبح جزءاً من الحقيقة التاريخية. مثلاً، يحكي السومي كيف أنه قبل السبي البابلي، حدث السبي الآشوري. هذا السبي (أي الآشوري) لا يُحكى عنه الكثير، لأن مَن سبى هو مملكة إسرائيل (أقيمت على أرض فلسطين التاريخية)، التي هي ليست مملكة لليهود ولا مملكة يهودية، بل إنها كانت مملكةً لعبدة آيل، أي الكنعانيين الذي يعبدون الإله آيل وليس يهوه، وهذا يؤكده كذلك أن أهم حاضرة دينية فيها كانت مدينة «بيت إيل» (أي بشكل أو بآخر معبد الإله إيل). أما عبدة يهوه الذين كانوا يسكنون في المملكة الصغيرة المجاورة، أي مملكة يهودا، فقد كان عددهم أقل من 5000 بحسب البروفسور اليهودي والمؤرخ الأميركي نورمان فنكلستين، مقابل 40 ألفاً لمملكة إسرائيل. ويشير السومي إلى أنه حتى مملكة يهودا، لم تكن يهودية في أيامها الأخيرة، إذ إن «النبي إرميا» الذي توفي بعد السبي بسنة، يشير إلى أنَّ «عدد آلهتك يا يهودا بعدد شوارعك». وبالعودة إلى مملكة إسرائيل، يوضح السومي أن ملوكها الخمسة عشر المؤكدين تاريخياً (والثمانية عشر بحسب التوراة)، جميعهم ملعونون بالاسم في التوراة. إذاً كيف يمكن اعتبار هذه المملكة يهودية وكانت تعبد الإله اليهودي أو باعتبارها وطناً لليهود؟ «طبعاً بعد السبي البابلي، لجأ سكان المملكة الصغيرة إلى نسب أنفسهم إلى المملكة الأكبر والأقوى، فالمملكة الإسرائيلية كانت تمتلك الجيش الأكثر تجهيزاً في تلك المرحلة لناحية العربات التي تشابه الدبابات اليوم قيمةً. من هنا كانت لمملكة إسرائيل قيمة كبرى. هذا الأمر جعل الأمور تتخالط، فيصبح سكان يهودا إسرائيليين ويعبّروا عن أنفسهم كذلك» على حد تعبير السومي. إذاً نحن أمام خلطٍ تاريخي مقصود ولعبةٍ ذات أبعاد تهدف إلى خلق بعد تاريخي غير موجود وغير حقيقي: «حين أتى بن غوريون أول رئيس لوزراء الصهاينة، أسمى الدولة بدولة إسرائيل معطياً لها ذلك البعد التاريخي» يحكي السومي. إذاً هو بعد تاريخي غير حقيقي لدولة لم تكن لليهود، لكن تزوير التاريخ بقي مستمراً.

التشابه بين ملحمة
جلجامش والتوراة حتمي
لأنهما كتبا في بيئةٍ واحدة


يؤكد السومي أنَّ مع ترجمة الباحث البريطاني جورج سميث ملحمة جلجامش عام 1872 (توفي عن سن صغيرة، ودفن في مدينة حلب لاحقاً)، «كانت الضربة الحقيقية لمدى حقيقية العهد القديم. فهناك الكثير من القصص هي ذاتها موجودة في الملحمة، وخصوصاً موضوع الطوفان». الرجل عينه أي سميث، قدم محاضرة في الجمعية البريطانية للآثار، تناقش هذه الفكرة، «وكانت هناك آراء سابقة تناولت مصداقية العهد القديم، حيث كان هناك عالم ألماني يدعى يوليوس فلهاوزن، كان أول من افترض بأن التوراة من تأليف بشري بحت. وقد قسّم مراحل كتابة التوراة إلى أربع: مرحلة الألوهيمية المأخوذة عن التراث الإسرائيلي، مرحلة اليهوية (المأخوذة من تراث يهودا)، المرحلة التثنوية (كانت في عصر الملك يوشيا الذي حكم مملكة يهودا من 639 إلى 609 قبل الميلاد) وأخيراً المرحلة الكهنوتية».
يوضح الباحث الفلسطيني بأن فلهاوزن لم يكن يمتلك دليلاً مادياً (بمعنى أركيولوجياً أو أثراً جغرافياً)، بل كان كلامه مجرد نظريات مبنية على دراسته للتوراة، مشيراً إلى أن جماعة «يهوه وحده» كانت الجماعة التي ارتكزت إليها الابحاث خلال الحديث عن «وحدانية الاله عند اليهود». علماً أنّ الباحث الأميركي مورتن سميث وصفها بأنّها «عالية الصوت» لأنها جاءت من الريف كما إلهها يهوه (تحديداً من منطقة تيمان وسعير في فلسطين) حيث لم يكن هناك حاجة لآلهة كثر. فالمجتمعات المستقرة ــ بحسب السومي- كانت تعبد «مجمّعات الآلهة». هكذا، عبد الكنعانيون إيل (رئيس مجمّع آلهتهم) وبعل وعشتار، فيما عبد اليونانيون زوس وهيرا وأثينا... أما جماعات الإله الواحد كـ «يهوه وحده»، فهي جماعة بدوية/ ريفية امتازت بمتانة روابطها الاجتماعية (نظراً إلى أنها تنتمي لعشيرة واحدة) مما جعلها مثلاً تقوم بانقلابات عدة على السلطة في أورشليم. هذا ما أوصل أخيراً الملك يوشيا إلى الحكم وهو لا يزال في التاسعة من عمره، وكان من تربيتهم وإنشائهم. وطبعاً بحسب التوراة، فإنَّ يوشيا هاجم المعبد/ الهيكل (لا يشيرون بأنه هيكل كنعاني) ودمر تماثيل بعل وعشتار (الإله الكنعاني). طبعاً الهيكل الذي نتحدث عنه هنا هو ما يشير إليه الصهاينة باعتباره هيكل سليمان، وهذا يوضح مدى قوّة الخرافة في أنَّ هذا الهيكل لم يكن لسليمان، بل كان هيكلاً لعبادة إيل وعشتار وبعل. أكثر من هذا، فإنه بعد وفاة يوشيا، حكم ثلاثة من أولاده بعده. لكنهم لم يعبدوا الإله «يهوه»، بل عادوا إلى عبادة آلهة الكنعانيين الأخرى. «معظم العهد القديم كتب في بابل أثناء سنوات السبي. ربما كانت هناك بعض المرويات والتعاليم موجودة لكن بشكل شفوي». لذلك، يبدو أن التشابه بين ملحمة جلجامش والتوراة حتمي لأنهما كتبا في بيئةٍ واحدة.
شائك هو بحث السومي، فالغوص في أبحاثٍ تاريخية يسعى الصهاينة إلى إثباتها وتأكيدها، ليس سهلاً، لكنه لن يتوقف هنا. هو يسعى لترجمة الكتاب إلى لغاتٍ ثانية، «لأنه من المهم أن يصل إلى قرّاء يهود». في الإطار عينه، ينكبّ السومي على كتابٍ آخر حول «الربيع العربي» وتداعياته ربما من زاوية رؤيته الخاصة لما حدث في هذه الحقبة الزمنية.