القاهرة | منذ أحد عشر عاماً، اقتحم رجال أمن الرئاسة مستشفى الشرطة، وصادروا جثمان نجيب محفوظ. أصبح الجثمان تحت «الرعاية» الكاملة لخبراء المفرقعات في رئاسة الجمهورية، منذ تلك اللحظة أصبحوا مسؤولين عن كافة تفاصيل الجنازة، من غسل وتكفين، بل مسؤولين أيضاً عن تفتيش أفراد العائلة والأصدقاء تفتيشاً دقيقاً، حرصاً على سلامة الرئيس الذي سيشارك في تشييع أديب مصر.
وبعد كل هذه الإجراءات كان لا بد من تمرير الجثمان في أجهزة كشف المفرقعات، وحراسة الجثمان بعد ذلك ومنع أي أحد من الاقتراب حتى موعد الجنازة. لم يتحقق حلم محفوظ بأن تخرج جنازته الشعبية من «سيدنا الحسين» كما تمنى. فقد كانت المفاجأة أن النعش الذي حمل إلي مسجد الحسين كان فارغاً، حيث نقل جثمان محفوظ مباشرة إلي مسجد آل رشدان حيث الرئيس والجنرالات في الانتظار... لم يتحمل الرئيس السير في الجنازة سوى دقائق، لم تتجاوز ثلاث دقائق، فقط من أجل التصوير أمام الكاميرات، انسحب مع مرافقيه، وحراسه تاركين الجثمان.
جنازة محفوظ كانت نموذجاً للجنازات الرسمية الباردة التي رعتها دولة مبارك، جنازة مزيفة، تماماً كالقلادة التي منحته السلطة إياه، ما هي إلا تعبير عن عصر كامل من الزيف.
وكان الأمر مستفزاً، بدلاً من أن تفكر السلطة ولو للحظة في أن ترسل رسالة بأن التفاف الناس حول محفوظ يمكن أن يكون رسالة ضد التطرف والعنف، رسالة تعني احتفاء بمدنية الدولة الهاربة من تأميم الشيوخ للمجتمع. حدث الأمر ذاته مع سعاد حسني النجمة المتفجرة بالحياة، التي صعدت من أسفل السلم الاجتماعي لتصبح النجمة الأولى، قتلوها، وحرموا محبيها من السير في جنازتها. وكذلك مع محمد عبد الوهاب فقد كان حظه أنه مات في عهد مبارك الذي كان يخشى شعبه.
على العكس مما حدث في العهود السابقة. محفوظ نفسه وصف جنازة سعد زغلول بأنها «الأكبر والأعظم» بل تفوق جنازة عبد الناصر. رفعت فيها الجماهير النعش على أكتافها من ميدان الأوبرا وحتى مدافن الإمام. وكان الحزن شاملاً كل الفئات والطبقات والأحزاب... فسعد هو «الأب الروحي للأمة كلها». وهو الأمر ذاته الذي حدث مع النحاس باشا عام 1965، الذي فرض عليه حصار شديد، ومنع من الظهور أو الإشارة إلى أخباره في كافة وسائل الإعلام، ويوم وفاته حذرت السلطة الناصرية الجمهور من «التجمع» وقامت بتهديد المشيعين بحجة أن الشعب مولع بالجنازات.
في عهد عبد الناصر لم تكن جنازة المشير عبد المنعم رياض جنازة تقليدية، نحن أمام قائد عسكري استشهد برصاص العدو، وكان في الصفوف الأولى يتفقد قواته. طغى على المصريين كما يقول الكاتب محمود عوض- وقتها شعور بأن استشهاد رياض أعاد الاعتبار إلى العسكريين جميعاً، هذا النوع الجديد من العسكريين الذين يقع على أكتافهم إعادة الاعتبار للعسكرية المصرية وإعادة بناء القوات المسلحة.
الأمر ذاته حدث مع عبد الناصر نفسه الذي سار في جنازته أربعة ملايين مصري في القاهرة وحدها وأقيمت له جنازات شعبية في كل المحافظات، بل في عدد من الدول العربية. وكذا الأمر في جنازات عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، وطه حسين، وهي الجنازات التي سار فيها الملايين، خرج الناس لوداعهم احتفالا بقدرة الإنسان علي الخلق والإبداع... الوحيد الذي نجا من مصير الجنازات الباردة كان البابا شنودة الذي رحل بعد غياب مبارك عن المشهد السياسي تماماً، فخرج الشعب مسلمين ومسيحيين ليلقوا نظرة وداع على جثمانه من دون أيّ قيود أمنية، وكانت جنازته إعلاناً عن استمرار روح التسامح التي تبدو في كثير من الأحيان غائبة.
لم تكن العلاقة بين محفوظ ومبارك مثيرة، لم تتجاوز الكلمات الدبلوماسية بين الاثنين في مناسبات مختلفة، لم تشهد «صداماً» كما حدث بين السادات ومحفوظ الذي وقع بياناً في عام 1972 يدين حالة اللا حرب واللا سلم مما أثار غضب السادات فأصدر قراراً بمنع الموقعين على البيان من الكتابة... وقال في خطاب رسمي «حتى اللي اسمه نجيب محفوظ بتاع الحشيش وقع معاهم» ليأتي رد نجيب محفوظ عليه «كل الناس تتكلم عن الحشيش إلا أنور السادات».
الصدام الوحيد بين محفوظ ومبارك لم يكن عنيفا، وتم تجاوزه بسرعة شديدة، إذ بعد أن أعلن محفوظ أنه لن يسافر إلى السويد لتسلّم جائزة نوبل لحالته الصحية، واختار محفوظ الأديب محمد سلماوي بحكم منصبه رئيس قطاع العلاقات الثقافية الخارجية ولإجادته الكاملة للإنجليزية والفرنسية. رئاسة الجمهورية اعترضت على الترشيح واختارت من جانبها ثلاث شخصيات للاختيار بينها: ثروت أباظة باعتباره رئيساً لاتحاد الكتاب المصريين، ثروت عكاشة باعتباره أقدم وزير ثقافة في مصر، ولويس عوض. سلماوي من جانبه قدم طلباً يعتذر فيه عن السفر لرفع الحرج عن محفوظ أمام الرئاسة، ولكن محفوظ كان حاسماً: «مقام الرئاسة محفوظ، ولكن ليس من حق الرئيس أن يختار من يسافر بديلاً لي، هذا حقي»... وهذه الجملة تعكس تلك المسافة التي اختارها محفوظ لتعبر عن علاقته بالسلطة، مقام الرئاسة محفوظ، بشرط ألا يمس حقي في التعبير عن رأيي!