لا تزال أهوال الحرب الأهلية تلقي بظلالها على الفنانة التشكيلية جنان مكي باشو في يومياتها وفنها. باشو التي تقف على أعتاب السبعين، تأخذ الحرب ومشاهداها وتداعياتها النفسية والبصرية، جزءاً لا يستهان به من مساحة تفكيرها وطريقة إعادة تجسيدها في خطاب فني ملتزم، يبغي استحضار إفرازات هذه الحروب ووضعها في إطار مواجهة مع الآخر ومصارحته. محترفها في منطقة بئر حسن، يضيق بالقطع الفنية المصنوعة من مادتي الحديد والبرونز، تحضيراً لمعرضها الجديد الذي يفتتح في 9 كانون الأول (ديسمبر) في «غاليري صالح بركات».
تحت عنوان «حضارة»، يستدعي المعرض 15 عاماً من الحروب يضاف إليها التهجير والغربة، والحروب الأخرى المتتالية التي أصابت لبنان جراء العدوان الإسرائيلي. سنوات أمضت باشو جزءاً منها متنقلة بين الولايات المتحدة الأميركية (20 عاماً)، وفرنسا (5 أعوام)، والكويت (7 سنوات)، إلا أنها آثرت البقاء في بلدها، تشبثاً بجذورها وبتحقق أمل منتظر، فعادت عام 2000 مع تحرير جنوب لبنان.
في معرضها التجهيزي «حضارة» الذي بدأت التحضير له قبل ثلاث سنوات، تكثّف جنان باشو تجربة الحرب اللبنانية ولا تفصلها عما يحدث اليوم في الإقليم. «برج المرّ» الشاهد على بشاعة الحرب وعلى «الاقتتال والتهجير»، يحضر في المعرض، وإلى جانبه مجموعة من الأرزات المحترقة التي ترمز إلى المجازر البيئية التي تقضي على الثروة الطبيعية. وبين ألوانها السوداء تصرّ باشو على تطعيمها باللون الأخضر دلالة على الأمل والبقاء. ومن لبنان إلى سوريا والعراق البلدين اللذين يشهدان اليوم على صراعات دامية، تطل الجماعات الإرهابية، على رأسها «داعش» لتتجسد عبر تماثيل من حديد، تارة تتحضر لنحر الأسرى، وطوراً تجول في مواكب سيّارة استعراضاً لقوتها. في هذا المعرض، تعكس باشو واقعاً ما كنّا وما زلنا نراه على الشاشات بواقعية شديدة، بدءاً من الأقفاص (مصنوعة من مادة البرونز) النقالة والسجون، إلى أدوات القتل: السكاكين، وأدوات الترويج، والأعلام. تعيد تجسيد حرق مكتبة الموصل، وهدم «متحف نينوى» أيضاً في العراق. تعرض كل هذه المشهدية الدموية والقاسية التي صنعتها من الحديد «لأن الأخير بارد ويستطيع تجسيد الحالة السياسية» وأيضاً هو «صلب وسهل التطويع» كما تقول. في موازاة ذلك، تقدم باشو مجموعة كتب عملت على صقلها بعناية. ومن هذا المشهد المركب، تخرج بالخلاصة التالية: «رغم مرور كل هذه السنوات وتعاقب الحضارات، إلا أن الإنسان بقي متوحشاً ولم يتحضّر». هذه المشهدية الدموية والقاسية التي تعيد تجسيدها، لا تفصلها باشو عن سيرورة التاريخ الذي يعيد نفسه اليوم مع مشاهد الأسر والذبح.

ترى أنّ معرضها يعكس
«جمالاً واقعياً» يهدف إلى
إحداث صدمة عند المتلقي
تستذكر زنوبيا وأسرها، وإبادة الهنود الحمر، وتعيد سرد قصص الغارقين وسط المحيط. تصوّر في هذا الخصوص مجموعة زوارق تحمل المهاجرين بأعداد كبيرة تتخطى قدرة الزورق على الاحتمال. تصوّر هؤلاء من دون أن يكون هذا التجسيد محدداً بمكان وزمان معينين يخص فقط المهاجرين السوريين، الذين ابتلعتهم البحار قبل أن يصلوا إلى شواطئ الفردوس الأوروبي. تذهب من خلالهم الى آخرين مروا في التجربة عينها من الكوبيين والمكسيكيين.
جنان باشو التي ترفض أن تتعامل مع الفن للفن فقط، بل تصرّ دوماً على تطويعه في خدمة القضايا الإنسانية والعربية، لا تكف في حديثها معنا على تكرار بأنها فنانة «ملتزمة قومية عروبية»، لا يمكنها أن «تدير ظهرها» لما يحصل. رغم بشاعة ما تخرجه في معرضها التجهيزي، إلا أنّها ترى فيه «جمالاً واقعياً» يهدف إلى إحداث صدمة ووعي عند المتلقي، وخاصة أولئك الذين يضعون «غشاوة على عيونهم» ويتجنبون «مواجهة الحقيقة». تحث هؤلاء على هذه المواجهة كما يفعل أهالي شهداء مجازر هذه الجماعات. وكما خرجت جماعات دموية مشابهة في التاريخ واختفت، فإنّ «داعش» أيضاً الى زوال. هكذا تؤكد الفنانة اللبنانية ثقتها بهذه الحتمية التاريخية.

* معرض«حضارة»: من 9 كانون الأول (ديسمبر) حتى 7 كانون الثاني (يناير) ـ «غاليري صالح بركات» (كليمنصو) ـ للاستعلام: 01/365615