قبل خمس سنوات، فجّر صالح بكري ـ أحد أهم النجوم السينمائيين الفلسطينيين حالياً ـ مفاجأة من العيار الثقيل حين أعلن أنه «لن يمثّل في أيّ عمل إسرائيلي بعد اليوم». طرح ذلك أسئلةً كثيرةً حول فكرة المقاطعة الثقافية للكيان العبري من قبل فلسطينيي الداخل (ولو أنّه لا يحب هذا التوصيف، ويصرّ على توصيف «فلسطيني» فقط)، خصوصاً أن الممثل الشاب (مواليد 1977) قد حصل على جائزة «أوفير» كأفضل ممثل في السينما الإسرائيلية وقتها.
إذاً، كان ممكناً أن يصبح واحداً من أهم نجوم السينما والدراما الإسرائيليتين، لكنه أصرَّ على أنه «مقاطع» للسينما العبرية مهما كلّفه الأمر. منذ ذلك اليوم، ينشط الشاب المولود في حي العجمي في مدينة يافا، والقادم من قرية البعنة، حول العالم، فقدّم الفيلم الإيطالي «سالفو»، والألماني/ الفلسطيني «جيرافادا»، والفرنسي/ المغربي «عين النساء»، وأخيراً فيلمه اللبناني الذي أتى لأجله إلى بيروت مع المخرج المعروف ميشال كمّون.
«جاء قراري بالمقاطعة في لحظة ما، لكنه أخذ وقتاً حتى وصلت إليه. لم أكن أستطيع قبلاً التفكير في الموضوع. كنت في الـ 18 من عمري ووجدت نفسي أدرس في معهد إسرائيلي للسينما، لأنه ببساطة لم يكن هناك أيّ معهد آخر يدرّس الاختصاص. كنت أريد التعلّم في الخارج، لكن الإمكانيات لم تسمح. بعد تخرجي، شاركت في ثلاث مسرحيات في المسرح العبري، وفيلم واحد روائي طويل. تزامن ذلك مع بداية الملاحقة السياسية لأبي (محمد بكري) بسبب فيلمه الوثائقي «جنين جنين» (2002) الشهير، الذي عرّضه للملاحقة وللمحاكمة الصهيونية، وما زالت الملاحقة مستمرة حتى هذه اللحظة. هذا الأمر أثار ضجة كبرى داخل فلسطين المحتلة وخارجها». يكمل: «كل هذا دفعني إلى اتخاذ قرار بمقاطعة السينما الصهيونية. الأمر ذاته ينسحب على شقيقي زياد (الأصغر سناً منه). رأيت أن اليسار الإسرائيلي الذي يدّعي اليسارية، لم يأت أحدٌ منهم للوقوف مع والدي حين تعرّض للملاحقة والمحاكمة. طبعاً، أتى بعض الأشخاص بذاتهم كالمرحوم جوليانو مير خميس، وأودي ألوني (الأول نصف فلسطيني، والثاني معادٍ للصهيونية). هؤلاء كانوا الوحيدين الذين وقفوا مع الوالد. ساعتها تنبّهت إلى أنَّ العمل مع الإسرائيليين بهدف تقوية اليسار الإسرائيلي (لمجابهة اليمين المتطرف) غير نافع، لأنه لا وجود ليسار إسرائيلي أصلاً كي تتم تقويته. يومها تأكدت أن هذا اليسار غير موجود». أتى إعلان صالح بكري بمثابة «صرخة» في لحظةٍ معينة، فهل كان الأمر مقصوداً في تلك اللحظة؟ وهل كان نوعاً من المقاومة أو الغضب تجاه هذا الاحتلال وسياسته؟ يشرح الفنان الفلسطيني: «الموقف كان إطلاق صوت قبل أي شيء آخر. أعلنت المقاطعة متأخراً، فأنا مقاطع منذ عام 2008، لكن لم أعلن إلا منذ خمس سنوات فقط. لم أشعر بأنه يجب أن أعلن ذلك، شعرت ببساطة بأنّ من واجبي ألا أعمل مع الإسرائيليين لا سينمائياً ولا مسرحياً. ما حدث أنني كنت أجلس مع صحافي فرنسي يدعى فرانك بارات، وهو ناشط سياسي ومن مؤسّسي «مهرجان السينما الفلسطينية في باريس». وأخبرته أنني مقاطع، وتزامن ذلك مع ازدياد الحديث عن المقاطعة (BDS) التي بدأت كحركة مقاطعة اقتصادية، ثم راحت تأخذ منحى ثقافياً وأكاديمياً، وصارت هناك حركة عالمية تدعو إلى المقاطعة الإعلامية والأكاديمية لإسرائيل. ساعتها، أحسست بأنني جزء من هذه الحركة، ولو لم أكن جزءاً منها بشكل رسمي».

لا وجود ليسار إسرائيلي،
والنظام الصهيوني نزوة
من نزوات التاريخ


هنا يأتي السؤال منطقياً: هل كان العمل في السينما الإسرائيلية محاولةً لقول شيءٍ ما؟ يجيب: «في كل الأعمال المسرحية والسينمائية الإسرائيلية نوعٌ من الخط الأحمر سياسياً ممنوع تخطّيه، ودائماً هناك محاولة الموازاة بين الضحية والجلّاد». يؤكد صالح أن الصراع اليوم يختلف عمّا كان عليه الصراع أيام والده: «جيل والدي كان يريد أن يقول إننا هنا، نحن موجودون. كان همّه إثبات الوجود. جيلنا نحن أمره يختلف، فأهلنا أثبتوا وجودهم، وبالتالي على النضال أن يتطور في الداخل الفلسطيني، ولا تنفع إعادة الأمور إلى بداياتها، ولا إعادة الخطاب والسلوك نفسيهما». ويؤكد أنّه «لا يمكن فصل الفن عن المقاومة والتغيير والطموح للتغيير والثورة. أنا بدأت المقاومة والمواجهة في المعهد الصهيوني للدراما. هناك تعلمت المواجهة، لقد كنا طالبين عربيين وحيدين في ذلك المعهد، أنا وزميلة لي». نسأله بشكلٍ مباشر: ما الذي جعله هكذا؟ هل هي التربية؟ العائلة؟ البيئة؟ التماس المباشر مع الصهاينة؟ يجيب: «قد يكون ذلك عائداً إلى أهلي، أو التربية، أو حتى الجرح. فيافا، المدينة التي ولدتُ فيها، هي جرحٌ كبير في روحي. كلما زرتها، شعرت بالحزن. كمبدع، أنا محرومٌ من مدينتي التي ولدت فيها، المكان الذي فيه هذا الكمّ الهائل من التنوّع والثقافة والفن والحياة. هؤلاء (الصهاينة) حرموني منها. كانوا استراتيجيين في تدمير المدينة الفلسطينية، يافا، حيفا، عكا... إنّه تدمير للشعب، تدمير لأيّ طريقة وإمكانية ليبقى ويكون. هذا الجرح هو كبير للغاية. حين أتيت إلى بيروت، كنت أتخيّل يافا في عقلي. كيف من الممكن أن تكون يافا لو لم يدمّرها الصهاينة ويمنعوها من التطور الطبيعي. كثير من الأشياء التي تجعلني أكون هكذا، وهو ليس أمر فائق للعادة، هذا هو واجبي. أنا لا أقوم بأمر خارق، ولست «بطلاً» من نوع معين، هذا هو واجبي، لأجل ذلك لم أشعر بأن عليّ أن أعلن عن قراري بالمقاطعة».
أما عن زيارته للبنان، فيؤكد أنها كانت جميلة، لكن منهكة بعض الشيء، إذ قضى مجملها في العمل. يضيف: «أنهيت تصوير فيلم مع المخرج اللبناني ميشال كمّون» الذي عرفه الجمهور اللبناني مع فيلمه «فلافل» (2006). لقد قضينا أكثر من 36 يوماً في التصوير، وربما يحتاج الفيلم إلى عامٍ كي يخرج إلى النور ونشاهده مشاركاً في المهرجانات».
عمل صالح أيضاً مع إيليا سليمان في «الزمن الباقي»، ومع آن ماري جاسر في باكورتها الروائية «ملح هذا البحر» (2008). بعد مشاركته في الشريط، أصبح ممثلها الأثير، إذ شارك ويشارك في جميع أفلامها حتى اللحظة. نسأله عن العمل مع المخرجين الفلسطينيين، فيجيب: «طبيعة سينما إيليا، ولغته السينمائية، تختلفان عن تلك التي تقدّمها آن ماري. عدا ذلك، هناك كثير من المسرح في العمل مع إيليا. الصورة عنده لا تتحرك كثيراً، الـ Frame لا يتحرك، وأنت جزء من هذه الصورة، فتصبح داخل الإطار وتعمل داخله وضمنه. فإيليا لا يرتكز على الطبيعة النفسية لشخصياته، بل على المشهد/ المقطع ككل، وعلى اللغة السينمائية والجماليات، وماذا يقول كل مشهد والجو العام. وبالتأكيد كان العمل معه ممتعاً وجميلاً. وأكيد أكرر التجربة من دون أن أفكر مرتين في الموضوع، وأنا أحبّ إيليا وأحترمه كثيراً، وللأسف لا يرى أحدنا الآخر إلا في المهرجانات». أما عن آن ماري جاسر، فيقول: «نحن صديقان وشريكان، وهناك معرفة وصداقة وعلاقة طيبة. التقينا في حيفا، إبان تجارب الأداء لفيلمها الأوّل «ملح هذا البحر»، ومن وقتها لم أعد أقوم بتجارب أداء معها». أما عن صعوبة العمل معها، فيؤكد أن جميع الأعمال معها صعبة، «لأن السينما بشكل عام صعبة، فأن تصنع فيلماً ليس أمراً سهلاً، فهو يحتاج إلى أموال وتقنيين مهرة. أضف إلى هذا أنّ الوضع في فلسطين صعب، لذلك فإن الأمر ينسحب على الأفلام كذلك».
في الختام نسأله عن علاقته بالإسرائيليين اليوم: هل يشعر بأنه غريب وسطهم وخارج الإطار العام الذي يريدون له وللفلسطينيين أن يكونوا داخله؟ يجيب: «أنا على يقين بأن الإسرائييلين هم الغرباء، هذه هي بلادي وهم الغرباء. إسرائيل ستنتهي، هذا النظام سينتهي، هذه الصورة واضحة جداً، المسألة مسألة وقت، فهل سنشهد نهاية هذا النظام أم سيشهده أحفادنا؟ لا أعرف، لكن هذه الصورة أراها بشكل واضح، هذا نظام زائل». ويختم: «هذا النظام هو نزوة من نزوات التاريخ».




إشي بِخْزِيْ

يعلّق بكري على مشاركة ممثلين فلسطينيين في المسلسل الصهيوني «فوضى» الذي تبنّته شركة «نيتفليكس» الأميركية أخيراً (عرضت جزأه الأول، وتستعد لإطلاق الثاني قريباً)، ويحكي قصّة وحدة «المستعربين» الصهيونية القاتلة. يشير بكري إلى أنَّ مشاركة هؤلاء في العمل «إشي بِخْزِيْ». فـ «فوضى» مسلسل سيّء للغاية، ولا أفهم لماذا يعمل ممثّلون فلسطينيون في أعمال مماثلة. أعتقد أنّ الأمر مرتبط بالمال لا أكثر ولا أقل».





أدواره

يشرح صالح بكري عن علاقته بأدواره، وكيف أنَّه مستعد لأن يأخذ أدواراً متعددة، وبعيدة عن شخصيته، فيما أدواره التي لعبها كلّها قريبة إلى قلبه. ويؤكد أنَّ أهم شيء بالنسبة إليه في أفلامه هو «الرسائل» الكامنة خلف العمل، فـ «كل دور تؤديه كأطفالك، ولا تستطيع أن تحبّ دوراً أكثر من غيره. كل الأدوار التي أدّيتها حتى اللحظة أنا مؤمن بها. أنا أختار أدواري حسب الفيلم. قد أؤدي شخصية شريرة، أو شخصية عكس مبادئي، لكن ما يهمني في المحصّلة هو ماذا يريد أن يقوله الفيلم. تهمني رسائله فنياً وسياسياً أكثر من أهمية دوري».