على أحدِهم أن يشكر نقابة الفنّانين السوريين، على أحدهم أن يشكر الفنّانين السوريين، على أحدهم أن يفعلَ ذلك. إذ لم يكن لرحيل نجاح حفيظ أن يشبه السوريين اليوم لو أنّه «توّج» بتشييع حافل في زمن باتت واحدةٌ من ثيماته المكرّسة أن يموت السوري البسيط بصمت، ويُكفّن ويُشيّع (إن شُيّع) بصمت، ويُدفن بصمت، ما لم يكن في المظاهر «الكرنفالية» ما يخدم أجندةً أو يمكن تجييره لمصالح تيّار ما.
ولولا غياب تلك المظاهر عن الرحيل الأخير لصاحبتها، لم يكن لشخصيّة «فطوم حيص بيص» الشهيرة أن تحظى أخيراً بتعاطف الشارع وتضامنه معها في وجه الإهمال الرسمي. ولربّما اكتفى معظمنا بنعي عابر تغلب عليه النوستالجيا فحسب. أما وقد وُضعت حفيظ بـ «فضل» سلوك المؤسسة الرسمية في خانة غيرِ أصحاب الحظوة، فقد شكّل رحيلها فرصة جديدة لتسليط الضوء على عورة بلغ القائمون عليها من الجرأة (اقرأ الوقاحة إن شئت) مبلغاً لا يشعرون فيه بحاجة إلى أوراق توت. صحيح أنّ «حيص بيص» حفرت عميقاً في وجدان الوعي الجمعي السوري. لكن المزاج العام دأب على التعاطي مع الشخصية بوصفها مادة للتندّر والتشفّي، في مقابل تعاطف مع شخصية «الشاطر غوّار» ومقالبه المتتالية، من دون أن يحدث المعدن الطيّب الذي صيغت منه «حيص بيص» أي فارق أو يستوقفنا للتفكير في مدى استحقاقها شرب المقلب تلو المقلب، بينما نحن نتفرّج ونضحك ونُعجب بما لحق بها وبحبيبها (حسني البورظان) من حيف.
لكن، ولمرة واحدة غضب الجمهور من المقلب الأخير الذي حاول كلّ الشطّار أن يُشربوا فطّوم إيّاه. وكما اعتاد السوريّون أن يحتفوا بموتهم المستمر عبر ضجيج افتراضي يملأ مواقع التواصل الاجتماعي (من دون أن يقدّم أو يؤخر) كذا نال رحيل نجاح حفيظ حصة وافية من صفحات السوشال ميديا، بما فيها (ويا للمفارقة) صفحات الفنانين الذين اكتفى معظمهم بجملٍ افتراضية تزيح عن كاهله أعباء تشييعٍ واقعي، وتحفظ له «بريستيج» الفنان. ضرورات «البريستيج» نفسها ستحمل إلينا (على الأرجح) مشاهد وأخباراً متتالية عن مجلس عزاء يضج بالنجوم، وأكاليل زهور متأخرة، عن تكريمات وأوسمة وما شابهها تحاول «إخراس» الأصوات الناقمة وإفحامها. غداً، أو بعد غدٍ، ينهمك الشطّار في مواصلة تلميع صورِهم، بينما يرنّ في وجداننا صوت الآخر التراجيدي (أبدعت نجاح حفيظ في أدائه كما أبدعت في الكوميديا) يرنّ صوتُه مخاطباً كل سوري: «ولي عليي عليك يا ميمتي» ولا يُسدل الستار.