منذ ثلاثة أسابيع تقريباً، بدأت إذاعة «صوت الشعب» بث برنامج جديد عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية كل يوم أربعاء. «عطيني خمس دقايق بسّ» هو اسم البرنامج. الزميل بشير صفير هو معدُّه ومقدّمه. أمّا بنيته (أو هدفه)، فيُمكن اختصارها بعبارة «الاستماع الموجَّه».
والمقصود بذلك أنّ المساحة الكبرى مخصَّصة للاستماع، لكنّ المادّة المقترحة للسَّمَع ليست «فالتة». وهنا يأتي دور المقدِّم، الذي يضعها في إطارها، مقدّماً للمستمعين معلومات وإشارات تساعدهم على مقاربة العمل من دون أن «توجّه» أو تفرض عليهم قراءة محدّدة. هكذا، تبقى التجربة مفتوحة وخاصّة بكلّ مستمع.
يشكّل هذا البرنامج تتمّة لبرنامج قُدّم على الإذاعة نفسها بين عامَي 2002 و2012 بعنوان «ما حدا مات». هو شبيه به على صُعُدٍ أساسيّة عدّة (المعدّ والإذاعة والبثّ الأسبوعي)، مع اختلافين: من حيث الشكل، هناك فقرة جديدة في نهاية البرنامج الجديد مخصّصة لإذاعة قطعة من خارج دائرة الكلاسيك، حيث الخيار واسع، طبعاً، ولا تقيّده إلّا القيمة الفنيّة للعمل. في الحلقة الأولى، سمعنا أغنية تندرج في فئة البلوز هي Strange Fruit للأميركيّة من أصول إفريقية بيلي هوليداي (1915 ــ 1959). وفي الحلقة الثانية، خُصّصت هذه الفقرة لموسيقى تقع بين البوب والجاز بعنوان Night Moods، وضعها الأميركي بوب جيمس (1939) للمسلسل التلفزيونيّ «تاكسي». أمّا من حيث المضمون، فالموسيقى الكلاسيكيّة هي المصدر، بِحَقباتها وأشكالها المختلفة، وقد أضيف إلى ريبيرتوارها إنتاج خمس سنوات تقريباً، هي فترة التوقّف بين البرنامجَين.
وبما أنّ البرنامج محورُه «الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة»، كان من المنطقيّ والموضوعيّ تخصيص الحلقة الأولى كلّها ليوهان سيباستيان باخ. فالمؤلّف الألمانيّ يُعدّ أبا الموسيقى الكلاسيكيّة من دون منازع ومرجعاً لا يمكن تجاوزه. وقد اختار البرنامج التركيز على مرجع أساسيّ في باخ، هو البيانيست الكندي غلين غولد (1932 ــ 1982)، إذ ــ علاوةً على كونه من أبرز عازفي البيانو في القرن العشرين ــ يُعَدّ غولد أهمّ مَن فهم عالم باخ وأدّى مؤلّفاته على البيانو (المواقف متفاوتة لجهة الإعجاب بالتوليفة لا لجهة تقدير العازف). هكذا، سمعنا أعمالاً مختلفة من كاتالوغ باخ بأداء غولد، من بينها البارتيتّا رقم 6 كاملةً (BWV 830) وعدد من البريلوديهات (preludes).
يمكن أن نعدّ الحلقة الأولى تأسيساً للثانية التي تمحورت حول أحدث الأعمال المخصّصة للمعلّم الألماني، وهو ألبوم أصدره عازف البيانو البولوني الشابّ رافال بليخاتش (1985) منذ شهرين تقريباً (عند دويتشه غراموفون). حمل هذا الألبوم عنواناً «بسيطاً» هو «يوهان سيباستيان باخ»، ولاقى حفاوة كبيرة بين النقّاد، فيما اعتبره الراديو البافاري المخصّص للموسيقى الكلاسيكيّة (BR Klassik) من بين «أجمل ألبومات باخ منذ زمن طويل». يمثّل بليخاتش مدرسة جديدة في مقاربة باخ، كما أوضح صفير، لذلك كان ممتعاً التعرّف إلى مقاربته بعدما أُعطينا فكرة عن مقاربة غولد في الحلقة الأولى. من بين قطع الألبوم، سمعنا الكونشرتو الإيطالي (BWV 971) والبارتيتّا رقم 3 كاملةً (BWV 827).
في ما يخصّ فلسفة البرنامج، لا بدّ من التوقّف عند ملاحظتَين. الأولى ملاحظة على ملاحظة مرّت في الحلقة الأولى: قبل الاستماع إلى فوغيتّا (fughetta) من عند باخ (BWV 961)، نُبّهنا إلى قرابةٍ بينها وبين البداية الموسيقيّة في أغنية Summertime بأداء جانيس جوبلن الشهير (1968). أمّا الملاحظة الثانية، فتتعلّق بعنوان البرنامج الذي يستحقّ مقالًا خاصاً لإعطائه حقّه، وهو مستلّ بذكاء من أغنية «أنا فزعانة» لفيروز (من ألبوم «ولا كيف» ــ 2002) التي تحمل توقيع زياد الرحباني. التناقض الظاهر في الملاحظتين مصطنع طبعاً، وسيزول لحظة نتخلّى عن بعض أفكارنا العنيدة والراسخة عن الموسيقى الكلاسيكيّة: صعبة ومضجرة ونخبويّة وكل شيء غريب عنها. لعلّ هذا ما يحاول «عطيني خمس دقايق بسّ» أن يقوله، بطريقة أو بأخرى، وبالدرجة الأولى من خلال الاستماع إلى الموسيقى.
أمّا هديّة البرنامج للمستمعين في كلّ حلقة فهي مزدوجة: قطعتان موسيقيّتان تَمرّان خجولتَين، كظلّ للكلام المرافِق لا أكثر. وما يمرُّ لمحاً أكثر قدرةً على النفاذ إلى الأعماق ممّا يمرّ بشكل واعٍ (الكائن البشريّ بطبيعته عدائيّ)، فكيف إذا كان هذا اللمح أصلاً إعجازاً في الجمال! هاتان القطعتان جزء أساسيّ من «الخمس دقايق»، لكن من دون أن تُحسبا عليها (أي على الدقائق الخمس). نقصد بهما موسيقى الجينيريك الذي يفتتح البرنامج وموسيقى الختام. الأولى مأخوذة من بداية الحركة الأولى للكونشرتو الثلاثي لباخ (BWV 1044)، والثانية هي المقطوعة الأخيرة من المتتالية الإنكليزيّة السادسة (BWV 811) التي تمثّل، بدورها، آخر المتتاليات الإنكليزيّة عند باخ (نسمعها هنا بتسجيل موراي بيرايا الممتاز). إذاً، باخ سيكلّل الحلقات كلّها. لكن مهلاً، فالأسرار التي تخبّئها هذه «الخمس دقايق» كثيرة. وما أُفشي في هذا المقال ليس إلّا غيض من فيض. قُل هو وصف تقريبي للدرجة الأولى في السلّم الذي يصل الأرض بالأبد.

*«عطيني خمس دقايق بسّ»: كل أربعاء ــ الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، والإعادة الأحد الثامنة والنصف مساءً ــ على إذاعة «صوت الشعب» (103,7 FM).