عندما تقرأ تحليلاً نصوص فاديا بزّي (الصورة)، تتنبّه أولاً إلى العنوان. عنوان لا يخلو من الشعريّة والتضمين في آنٍ معاً. كما يضع القارئ دائماً في إنتظار شيءٍ ما حتى بعد القراءة، كأن الحالة الموصوفة شعريّاً ما زالت حاضرة في الزمان والمكان. المصطلحان الأكثر تداولاً في النصوص. إن استخدام فاديا بزّي علامات الترقيم وبالأخص النقاط الثلاث في العنونة، دلّت على الاستمراريّة، وكأننا في الحاضر المستمر، نقاط ثلاث تقول لنا إنّ ما سيقرأ لاحقًا له تتمة، وإن في وقتٍ آخر، في حكايةٍ أًخرى، في نصٍّ آخر، في سطرٍ آخر، في حرفٍ آخر... في عشقٍ آخر.
وإذا أردنا أن نرسم صورة للكاتبة من خلال نصّها، فسيتمثل إلينا صورة فتاةٍ لم تكن تمتهن الحبّ، بل هي عاشقة بالفطرة، عاشقة حتى الثمالة، في كل نصوصها، وفي كل تجاربها الواقعيّة والمتخيّلة.
تكتب نصوص فاديا الواقع بكلمات رقيقة صادقة، كأن هذا الإحساس جزءٌ من حقيقة الواقع المعاش، واقع حبٍّ جامحٍ لعاشقٍ، حبّ أبٍ، حب ابن من الولادة حتى الساعة. فلا تتركنا نصوص فاديا بدون إحساس... بل تدفعنا لقراءة الذات في لحظة وَلَه أصابتنا في زمنٍ ما، وذكّرتنا بما عشناه. فتصوّر لنا فاديا في قصائدها عذابات العشق... ولذاته المؤجلة... عندما تقول: «لماذا يحفر من نحب/ عميقاً في القلب؟/ ترى عم يبحثون؟!/ وعندما يخرجون/ لماذا يحدثون/ هذا الكم الهائل/ من الحزن/ وهذا المدى الواسع/ من الفراغ...؟».
أما الإغواء فقد كان أيضاً حاضراً... متجذراً، تلميحاً لا تصريحاً، تجعلك تذهب في المخيّلة إلى أبعد من النّص، والصور التي يشكلها.
وفي غمرة النّصوص التي يشوبها الغموض والفوضى المنتشرة في كل مكان، نتلذذ في قراءة نصوص فاديا... فمن بعض صفات كتب الشعر الجيدة، أنها شعرٌ ومفهوم. فإذا بدأت القراءة، تدفعك الكلمات إلى الإستمرار في القراءة.
وبما أننا في زمن تكوين السمعة من جراء النشر المباح بلا حدود، مما أدى إلى هذا التخبط واللوثة الشعرية، بأن نوقع كل ما نكتبه تحت اسم شعراء، إلّا أنّ فاديا تذكرنا بتواضعها: «لست بشاعرة، ولا أدّعي نبوءة الشعر»، بالرغم من أنها فعلاً شاعرة وعليها نزل الشعر ونزلت عليه... لذلك عليها أن تكمل كتابة الشعر، لأنه عندما نكتب الحقيقة نكون أكثر صدقاً، وعندما نكون أكثر صدقاً، نفهم ما نكتب، ويفهمنا القرّاء، وهنا تكمن خبايا النص المُقنع، الخارج من ذات الصدور لكل ذات، بالأخص في هذا الكتاب، الذي يقرأ كل منا ذاته في نصوص كتبت لتوصّف حالة من حالات الإغواء المتبادل، المرصوف والمكدّس بالعشق والشغف والحنين.
لا تخاف فاديا من أن تقول أنها عاشقة، ولن تقبل بأن تكون «... بيدراً/ يحصد الخيبات/ أهديك كرهي/ لأنك أحلت عشقي/ على تقاعد مبكر/ وأهديك حبّي/ لأنك خرجت من قلبي/...» ، بل بيدراً عليه يجري حصاد الخير والغلة والوفرة والمونة... ونعلم جيداً أن الجفاف والقحط لا يكون من البيدر بل من الزارع على هذا البيدر الذي أهدته كرهها، وأهدته حبها في آنٍ... فتجديد «الإقامة» لن يكون إلا ببيدر على صورة الخير، والخير لا يثمر إلّا من الحبّ. وإذا قرأنا في البداية وصفاً لخيباتٍ، ولعشقٍ جامحٍ اشتعل بالنيران وبلذة الإنكسار عندما تقول: «رحت أتمايل في فضائك/ كناسكةٍ أفلتت للتو من صومعتها/ وأنت كنت تحوم حولي/ كفراشةٍ تبحث عن النار/ صرنا ندور حول بعضنا/ كطريدةٍ تفتش عن فريسة/ وسقطنا../ ... وعاد كل منّا إلى سرابه مفعماً بلذة الانكسار/...». نصل إلى النهاية لكي يزهر من جديد «عمراً كان قد ضاع بين الزهرة والرحيق» بالأخص عندما نقرأ على صفحة الغلاف الرابع: أنا امرأة/ مذ رأتك / اهتدت/ إلى ظلها.
أما إذا أنتقلنا الى التحليل من رؤية النّص والكاتب إلى رؤية النّص والقارئ... فوقْع الشعر مرتبطٌ بالقارئ في النظريات اللغويّة الحديثة بعد أن كان النّص يحللّ حسب أرتباطه بالكاتب فقط. لكنّنا الآن نأخذ بالإعتبار دور القارئ في تحليل النّص... ليس المهم ما تكتب، بل المهم كيف ستقُرأ؟ لهذا أصبحت الدراسات تصبّ في ما يسمّى جماليات الاستقبال. فالنّص يؤخذ حسب مقروئيته، والقارئ هو الذي يعطية الصفات المطلوبة كي يكون نصّاً ذات معنى حسب نمطه الدلالي والمعنوي المُراد منه... أما أهميّة الكتاب كقارئ، فتكمن في السلاسة عند القراءة، قراءة كتاب فاديا مريحة للسمع الداخلي من خلال وقع الكلمات المقروءة بصمت. فاختيار الكلمات شكّلت مادةً سلسلةً، هذا التشكيل هو لعبةٌ من ألاعيب التراكيب الشعريّة، التي لا تتعب القارئ، بل تحثّه على القراءة أكثر. فالشاعر المبدع لا يستخدم العبارت، بل يخدمها.
في النّصوص، نجد في المعنى نوعاً من اللعب الصافي في ديناميكيّةٍ شاملةٍ، بين الترابطيّة الدلاليّة من خلال التراكيب عن طريق الشكل أحياناً... كما عن طريق النبرة الصوتيّة، أخيراً عن طريق الدالّ، مما يعطي النّص بعده الشعريّ ككلٍ مؤلف من هذه العناصر مجتمعة. فالمعطيات المتعلقة مباشرة بالدالّ، بين الفونيمات وربما الكلمات، وعدد من المقاطع، وتوزيع اللهجات، وخط الكتابة، إلخ. نراها مجتمعةً في نصوص فاديا بزي.
وقد أتت النّصوص بصيغة الأنا، إذ لم تستخدم إلّا نادراً صيغة المبني للمجهول الذي يعبّر عن اللاشخصي. هذه النّصوص التي من الممكن اعتبارها رومانسيّة، مع التقليل من غنائيتها، يمكن فهمها أنّها تعبيرٌ عن المشاعر الشخصيّة للشاعرة، وكتعبيرٍ عن هويّة الأنا الشعريّة للكاتبة، ومن هنا يأتي الخلط بين الأنا النصيّة وأنا الشاعر. لهذا، إن استحضارها لصيغة المفرد أنا، هو تأجيل هذا للقارئ المفترض الذي عليه أن يتعرف على شخصيّة الشاعرة من جهة، كما علينا أن نفهم ما يُكتب على أساس أنه ذات صفات عامة، تحدث مع الجميع.
هذا هو كتاب فاديا الأول، شعراً. نعلم أنّ لها في الكتابة الإعلامية-السياسية أدباً، ينتظره المستمعون ليفرغوا من خلال صوتها ما في جوفهم ويشفي غليلهم، ويكون منبرهم، وفشّة خلقهم، إذن أنّنا أمام أدبٍ من نوعٍ آخر، أدبٍ مكتوبٍ بحبٍّ وحنان، واقعيٍّ بكلماتٍ نفهمها، مرفوعةِ الالتباسات المضمرة... تأخذنا إلى أبعد من المعنى، بمعانٍ لطيفةٍ، جديّةٍ، ناتجةٍ عن إحساسٍ مرهفٍ، ونضالٍ دائمٍ، خارج الانحرافات الدلاليّة. فشاعريّة الشعر عند فاديا هي أكثر من شعرٍ. هي تقول لكلّ العاشقين، كعاشقة، كلماتٍ في العشق عن الخيبة، والوله، والجموح، كما في الفراق واللقاء...