شهدت الفترة الممتدة بين الأعوام 2008 و2012 منع واقتطاع أفلام لبنانية عدّة، ووصل الأمر ببعض المعنيين والمراقبين إلى وصف هذه المرحلة بـ«السوداء» في تاريخ حرّية التعبير في البلاد. رغم كثرة التحرّكات المدنية الداعية إلى تعديل القوانين البالية التي تحكم عملية تصوير وعرض الشرائط السينمائية في لبنان وإلغاء الرقابة المسبقة عليها، ما زال مسلسل التضييق على الحريّات والإساءة إلى الفن مستمرّاً.
آخر «المآثر» الرقابية سُجّلت مع وثائقي «لي قبور في هذه الأرض» (2014 ــ 110 د.) لرين متري (1970) الذي حُرم من العرض في الصالات. تنطلق المخرجة اللبنانية من تجربة شخصية تتعلّق ببيع الأراضي في رحلة عبر المخاوف الديموغرافية بين الطوائف في لبنان اليوم. وفي تعريفها عن العمل عبر مدوّنة «أيام بيروت السينمائية»، تلفت متري إلى أنّه منذ انتهاء الحرب عام 1990، «استكملت معاملات الأراضي ما لم تحققه الحرب: تفكيك البلاد إلى مناطق طائفية. بواسطة تشابك ذاكرتي مع شخصيات الفيلم وذاكرة البلاد، يكشف هذا الوثائقي عن الحاضر المظلم حيث يعكس المشهد المشحون مخاوف المجتمعات والكراهية والتعصب».
خلال السنوات الماضية، سُجّلت حالات منع واقتطاع أعمال فنية عدة تنبش في ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية. واجه «سمعان بالضيعة» (86 د. ــ 2008) باكورة سيمون الهبر خطر مقص الرقيب بسبب تطرّقه في أحد المشاهد إلى «الحزب التقدّمي الاشتراكي»، إذ إشترط الأمن العام يومها اقتطاع مشهد مدّته خمس دقائق لأنّه «يثير النعرات الطائفية». بعدها، مُنع شريط «شو صار؟» (75 د. ــ 2010) من العرض في بيروت. من دون أن ننسى منع مسرحية ربيع مرّوة «لكم تمنت نانسي لو أن كل شيء لم يكن سوى كذبة نيسان» (2007)، قبل أن تحصل على إجازة عرض من مجلس الوزراء.
إذاً، يأتي منع فيلم «لي قبور في هذه الأرض» امتداداً لهذا النهج، والسبب مجهول طبعاً! كيف لا، ومن المعروف أنّ مرحلة الرقابة على العرض تحرم صاحب الفيلم من معرفة الأسباب الحقيقية لمنعه أو الاقتطاع منه.

خطوات أخرى تُطبخ على
نار هادئة لمواجهة المنع

بداية القصة مع جهاز الرقابة التابع لـ«المديرية العامة للأمن العام» كانت في 5 أيّار (مايو) الماضي، حين تقدّمت متري بطلب للحصول على إجازة عرض. وعندما راجعت المعنيين في 4 حزيران (يونيو) الحالي، أُخبرت بأنّ عملها ممنوع من العرض. عندها، طالبت متري بالحصول على القرار خطياً، وهي اليوم تنتظر الحصول عليه رغم أنّها تستبعد ذلك، وفق ما تؤكد لـ«الأخبار». وفي اتصال مع موقع «مهارات نيوز»، يوضح رئيس لجنة الرقابة على الأعمال السينمائية أندريه قصاص أنّ سبب المنع «وطني. الفيلم يثير العصبيات الطائفية والمذهبية، ويعكّر السلم الأهلي في حقبة دقيقة».
«مشكلتي ليست مع لجنة الرقابة، بل مع النظام الطائفي الذي تحاول مؤسسات الدولة حمايته وحماية مصالحه، ومن بينها الأمن العام»، تقول متري، مضيفةً: «عملي لا يثير النعرات. هو لا يقف في صف طرف ضدّ آخر ولا يظهر وجهة نظر واحدة، كما أنّه لا يحمل خطاباً طائفياً. أنا فقط أطلب من المشاهد أن يرى الضحية على المقلب الآخر أيضاً».
وعن وصف «لي قبور في هذه الأرض» بأنّه غير موثّق، تسأل متري: «ما المشكلة في الاعتماد على الشهادات الحيّة؟». وتتابع: «كيف هذا وفيلمي يتضمنّ 216 صورة من أرشيف جريدتي «النهار» و«السفير»؟ على أيّ حال مهما كان السبب، لا يحق لأحد أن يمنع عملاً إبداعياً».
على طريق المواجهة، تعتبر متري أن المرحلة الأولى «أُنجزت عبر الضغط الإعلامي»، كاشفةً أنّ خطوات أخرى تُطبخ على نار هادئة «لكنّني لا أريد الإفصاح عنها. لكن لا أتوقّع نتائج قريباً»، تقول.
كما المرّات السابقة، يصبّ الرأي القانوني في الإتجاه نفسه. يصرّ المستشار القانوني في مؤسسة «مهارات» طوني مخايل على «ضرورة حماية الحق في حرية الرأي والتعبير، التي تشمل حق الجمهور في الاطلاع على جميع الأفكار والآراء من دون قيود من قبل الدولة، تتعارض مع المصلحة العامة ومع قيم وعادات المجتمعات الديمقراطية التي تشكل إطاراً حراً لمناقشة جميع الأفكار والآراء وتحديداً تلك المتعلقة بتنقية الذاكرة». مجدداً، يُثبت النظام اللبناني أنه ما زال يرى في حرّية التعبير تهديداً له، والأغرب من ذلك أنّه عند مقاربة أي قضية تتعلق بالحرب الأهلية، يفضّل سياسة «النأي بالنفس» وطمر رأسه في الرمال.




سيرة

في عام 1970، وُلدت رين متري في لبنان. وبعد دراسة إدارة الأعمال في «جامعة اللويزة»، شاركت في مجموعة من ورش العمل التي تمحورت حول صناعة الأفلام الوثائقية والإنتاج. نشطت في برمجة الأفلام للنوادي السينمائية، وعملت أيضاً مبرمجةً لمهرجان Docudays في بيروت. منذ عام 2001، كتبت وأخرجت أربعة وثائقيات هي: «لي قبور في هذه الأرض» (عام 2014 ــ 110 د.)، و Vulnerable (عام 2009 ــ 52 د.)، وThe sound of footsteps on the pavement (عام 2004، 52 د.)، و Querido (عام 2003، 17 د.)، و A propos de la poire (عام 2001 ــ 5 د.). وعملت منسقة مشاريع في مؤسسة «سينما لبنان»، وهي تعمل حالياً في «مؤسسة الشاشة» في بيروت.