أخيراً، يصل «ربيع» Tramontane فاتشي بولغورجيان (الليلة س:19:30 ـ أسواق بيروت) إلى الديار، مفتتحاً «أيام بيروت». رحلة طويلة أبحرت من «أسبوع النقاد» في «مهرجان كان السينمائي» الفائت. خرج من الكروازيت بجائزة «السكة الذهبيّة»، التي تمنحها جمعية «موظفي سكك الحديد المحبين للسينما» في موازاة المهرجان.
بعدها، اعتاد الجوائز والتنويهات، منها أفضل روائي في «مهرجان براتسلافا السينمائي الدولي 2016»، وجائزة لجنة التحكيم الخاصّة في «مهرجان بروكسل لسينما البحر المتوسط «2016، وأفضل ممثّلة لجوليا قصّار في «مهرجان دبي». كل ذلك يجعل العرض المحلّي الأول مرتقباً. التوزيع التجاري قريباً، تتولّاه في لبنان شركة MC Distribution.
باكورة السينمائي اللبناني في الروائي الطويل، لا يغادر أسئلة الهويّة والانتماء، وهواجس ما بعد الحرب الأهليّة. يعمل مبضعه من وجهة نظر مغايرة: كيف تبدو الأمور من عيني ضرير فاقد لهوّيته؟ ربيع (بركات جبور) يعزف ضمن جوقة في قريته الشماليّة. شاب موهوب، دمث، يعيش حياةً هادئة مع أمّ مخلصة (جوليا قصّار) وخال محب (توفيق بركات).

شريط بديع عن اغتراب الفرد وأسئلة الهويّة والانتماء

تتلقّى الفرقة دعوةً للقيام بجولة فنيّة في أوروبا، فيقدّم طلباً للحصول على جواز سفر. يكتشف أنّ هويته مزوّرة. ينهار عالمه عندما يعلم أنّه ليس من يعتقد. هو ابن عائلة أخرى، لا يعرف عنها شيئاً.
سريعاً، ينطلق الشاب الحائر في رحلة للبحث عن جذوره الحقيقيّة، في تجوال وجودي للتعرّف إلى الذات والكيان. هو الذي لم يغادر القرية يوماً، يقطع دروب الريف، متنقّلاً بين القرى والبيوت. قصص الحرب، وحكايا الضيع المدمّرة، لن تقوده سوى إلى مزيد من الحيرة والتخبّط. تتفتّح بصيرته على حقيقة مفزعة. هذا بلد الخرائط المبعثرة والممزقة والأرواح الملعونة إلى الأبد. رائحة الحرائق والمجازر الجماعية تفوح مجدداً، لتزكم أنفه وتزيد من غليانه الداخلي. الماضي يطلّ برأسه، كوحش أسطوري غير قابل للموت.
«ربيع» فيلم بديع عن اغتراب الفرد داخل وطنه، عن الهويّة المشرذمة، عن التشوّه الذي يُخلَق مع المرء. مزيج بين «فيلم الطريق» و«فيلم الشخصية الواحدة»، التي تقوده بهدوء. تسير في دائرة من النّاس والأماكن التي برع بولغورجيان في اختيارها، لتعود إلى منطلقها الأول (البيت/ القرية). بركات جبور مبهج في قدرته على حمل الشريط على كتفيه، مقدّماً أداءً خلّاباً. جوليا قصّار تلعب الأم بفيض جارف (نشيطة سينمائياً في الفترة الأخيرة). عدم إظهار المدينة رغم ذكرها خيار مقصود، للبقاء داخل الجغرافيا الأولى. إنّها الأصل، والأرض البكر، والسجن المطبق. المشكلة والحل في آن. ثمّة ذكاء غير انفعالي في الإدانة. الكل متورّط في العبث بهذا الـ «ربيع»، الذي يستحق النجاة والاحتفاظ بروحه، على عكس العالقين في أوحال الماضي.
سينماتوغرافيا (جايمس لي فيلان) تلائم الطرح المظلم ورؤية البطل، إذ تفضّل العتمة في كثير من الأحيان. المخرج يوجّه العدسة على ما يهمّه من تفاصيل أثناء الحكي، مستفيداً من تقنية النت والفلو وعدسات البانوراما. الإيقاع ثقيل، يأخذ وقته في مفاصل محدّدة (توليف: ناديا بن رشيد). الاستغراق في الزمن يشبع حالة الاغتراب والحيرة. موسيقى (سينتيا زافين) متقشّفة. تدخل في الوقت المناسب لتتويج ذلك.