بوسعنا أن نضع رُهاب العدد 13 جانباً، «بينالي الشارقة للفنون» في دورتها 13 دخلت فعلاً مرحلة النضج، وفرضت نفسها كأحد أبرز المواعيد السنوية على الروزنامة الفنية في العالم العربي. وباتت تساهم في تفعيل الحراك الفني في المجتمع المحلي في الشارقة حيث يشارك في البينالي أكثر من 70 فناناً من مختلف أنحاء العالم، تُعرض أعمالهم في مواقع عدة في المدينة.
ماء، محاصيل، أرض وطهي، أربع ثيمات ترتكز عليها بينالي الشارقة لهذا العام وتقدّم صورة أكثر إشراقاً وتأثيراً لمشروع متعدد الأوجه والتحولات تقوده أسماء تنتمي إلى أجيال وطموحات فنية مختلفة. بين المشغولات اليدوية والرسم والتجهيز والتصوير الفوتوغرافي والفيديو آرت والديجيتال آرت، ثمة محاولة لإزاحة المعاني الجاهزة عن أماكنها، وتقديم أعمال معاصرة تحمل أسئلة اليوم وخاماته لخلق مجال بصري لا يتوقف عن طرح الأسئلة وتحفيز الذهن وتوجيه الأفكار نحو نقاط محددة تتطلب النقاش والبحث.
برنامج هذه التظاهرة التي تتولى تنسيقها اللبنانية كريستين طعمة، المديرة المؤسسة لجمعية« أشكال ألوان" يحمل طابعاً أكثر حيوية من الدورات السابقة، لا لناحية تنوّع المشاريع المشاركة وحسب، بل لاتساع الرؤى واشتمال البرنامج على الموسيقى، والعروض الأدائية، والمواعيد السينمائية، حيث يتضمن البرنامج أفلاماً من بينها«خُطوة خُطوة" للمخرج أسامة محمد، و"هدية من الماضي: 20 سبتمبر" للمخرجة كوثر يونس، و"حاجتين تلاته نسيت اقولهملك" للمخرج أحمد الغنيمي.
سيتجوّل المشاهد بين الأروقة المختلفة ضمن قالب سردي، يعتمد في بنائه على مقاربة شبيهة ببنية شريط سينمائي ويستوقفه عمل تركيبي جديد للمعماري والفنان الفلسطيني خليل رباح (1961). الأمكنة التي تحتضن معارض وتجهيزات رباح هي جزء أساسي من لحظة العرض لديه، لا ينجز هذا الفنان المتفرد أعماله وفقاً لشروط هذه الأمكنة بالطبع، إلا أنه يجد فيها صلات، مرئية وغير مرئية مع مزاجه الشخصي ومع روحية أعماله التي سرعان ما تؤلف حواراً حميماً مع تفاصيل هذه الأمكنة. مشروعه الأخير «فلسطين ما بعد فلسطين: مواقع جديدة للمتحف الفلسطيني لتاريخ الطبيعة والانسان» (2017) الذي يمزج فيه بين الرسم والتجهيز يحرّض المتلقي على قبول اقتراحات جمالية غير مألوفة ويقدم خصوصية فضاء مشحون، شائك وملتبس بكل ما فيه من أمنيات وخيبات. أعمال رباح خليط من ذكريات قديمة وتفاصيل مسترقة من حياة شديدة التحول، لذلك يسعى إلى خلق أماكن جديدة تماماً، مثل متحف متخيل أو حديقة حيوانات في غزة. القسوة المضمرة والعلنية في هذه الأعمال هي تجسيد للضريبة التي يدفعها الفلسطيني كي يستحق وطناً.
 الرهان على التجديد والابتكار لا يزال متواصلاً هذا العام، إذ تفسح الدورة الجديدة المجال لمزاج آخر وفنانين عرب باتوا يستقطبون الاهتمام . مثل الفنانة اللبنانية لمياء جريج (1972) التي تقدّم في عملها «مقطوعة1- السيناريو» نسخة مطبوعة طولها 15 متراَ، نستطيع من خلالها قراءة فيلم روائي طويل بعنوان «والعيش رغيد» قامت بتصويره على فترات متقطعة على مدى ثمانية أشهر واعتمدت فيه أسلوب الارتجال. هذه المحاولة تكشف عن معنى النسخ بأثر رجعي لنص لم يكن موجوداً أثناء التصوير وتطرح تساؤلات عدة من قبيل: ما الذي يجب التخلص منه عند ترجمة الصورة؟
لن نجد صعوبة في تلمس نفس الهاجس في أعمال الفنان التونسي إسماعيل بحري (1878) الذي اهتم منذ بداياته بالفنمولوجيا، عمله «طية» (2016) المستوحى من عالم الرسم الكرتوني والطفولة يتأمل مفهوم إعادة الإنتاج وتحويل الصورة، من خلال عملية بسيطة ومتكررة لطي ورقة من إحدى المجلات في مشهد يتكرر إلى ما لا نهاية.
سنكون مع تجارب إماراتية مختلفة منها للفنان عبد الله السعدي (1967) صاحب التجربة البحثية المعروفة التي جعلت من أعماله مساحة خصبة لتناول وتحليل الكثير من القضايا الإشكالية، عمله «رحلة الحرير والخرير» الذي يعود إلى عام 2015 هو مجموعة من المخطوطات والرسومات التي وثقها خلال رحلة بالدراجة الهوائية لمدة عشرة أيام، استوقفه خلالها تفاصيل يومية في المناطق الشرقية من الخليج العربي مرتبطة بالبن والشاي والرغيف. أما هند مزينة فتواصل ذلك الشغف في التوثيق الانفعالي لحياة معقدة ومثيرة التفاصيل، بوسعنا أن نسمّيها «سارقة الحياة اليومية في الإمارات»، عملها «حدائق دبي» يرينا النباتات التي تنمو في مساحات أنشئت لأغراض الزينة والاسترخاء في المدينة . تستخدم مزينة تقنية «اليانوتايب» وهي تقنية للتصوير بدون كاميرا كانت متبعة في منتصف القرن التاسع عشر، تضع نباتاتها على أوراق حساسة للضوء لتنتج صورا تحرك الحواس وتوقظ الكثير من المشاعر الخاملة.
البعد الرمزي لعنصر «الماء» وهو ما عبّر عنه عنوان«تماوج» الذي خُصص لهذه الدورة من بينالي الشارقة، يكاد يشكّل رابطاَ خفيا بين غالبية الأعمال. أساطير المجتمعات البشرية القديمة تُرجِع أصل الكون والحياة وجميع أصناف المخلوقات إلى الماء، والتي تعبر عنها داخل قوالب معرفية أسطورية شائعة الصدى منذ القدم كأشكال من المعتقد والموروث الشعبي المتصل بالماء، وتترجمه كمضامين دالة على موضوع المقدس والخصوبة والحياة والموت. هكذا يطالعنا قارب خشبي في احدى قاعات العرض، طوله سبعة أمتار ومن خلفه سبع لوحات توحي تدرجات ألوانها الزرقاء بوجود مياه متلاطمة، ما يعيد إلى أذهاننا الدراسات القديمة القريبة من الأنثروبولوجيا التي جعلت الجنون تجلياً لعنصر غامض ومائي في الإنسان، باعتباره « فوضى مبهمة وسديمٌ متحرك وموت كل الأشياء التي تمثل ثبات الذهن» . ومن هذا الترابط القديم بين الماء والجنون، ظهر في المخيال الأوروبي شبح «سفينة الحمقى» وهي سفينة غريبة جانحة، يتكون طاقمها من مجانين طردتهم المدن من جنباتها وسلّمتهم إلى الأمواج. وسيأخذ القارب دلالات أخرى قريبة من طقوس التطهير والعبور إلى سبل مجهولة تخفي الكثير من الأسرار والمعارف. الفنانة الألمانية يوريندة فويغت عنونت هذا العمل «الاسترخاء الراديكالي» وهو وصف أطلقه جان جاك روسو عن ركوب زورق تتقاذفه الأمواج بوصفه حرية مطلقة.
 الجزء الآخر من الحدث، يتجسد طبعاً في النشاطات الموازية وهي لا تحصى، هناك العروض الأدائية التي تستكمل المشهد، مثل «خمسة أقدام فأعلى» وهو عمل تركيبي في صورة محاضرة موسيقية يقدمها الفنان البرازيلي ماريو غارسيا تورس ويروي تاريخا مغيّبا للأنهار بوصفها مكان لقاء الثقافات.