«الطريق» ليست كالمساء في قصيدة وديع سعادة الشهيرة. للمجلة إخوة، في البلاد العربية، وحتى في العالم. إنها شجرة يسارية في العالم، ثمارها أزهرت وذبلت وأزهرت وذبلت، وهكذا. ليست مقطوعة من «شجرة»، وإن كان الحزب الشيوعي شجرتها وأصلها. لنشأتها علاقة بالزمان والمكان.
وكذلك استمرارها. وكما كانت هناك أسماء في لبنان كمهدي عامل، وحسين مروة وغيرهما، كان لوي أراغون يرأس تحريرLes Lettres Françaises، وكان اسمه لامعاً إلى جانب أسماء أخرى كإيلوار وبوليتزر وطبعاً سارتر. وهذه ليست ذريعة لرصف الأسماء على مقامٍ واحد، أكثر من كونها محاولة «تأريخ»، لغصن من أغصان «المرحلة» في إحدى فروعها اللبنانية الصغيرة. إنها محاولة لسداد بعض الديون للأسماء العتيقة. وهي عتيقة جداً، فقد تأسست المجلة في عام 1941. قبل «ستالينغراد»، وقبل «خليج الخنازير»، وقبل كل شيء. تأسست في زمن بيروتي هادئ (نسبياً) وجد فيه المهندس أنطوان ثابت فرصةً مواتية لإطلاق هذا المشروع الشيوعي الذي صار كبيراً وثميناً وأثرياً. أنطوان ثابت إلى جانب «شلة» من الرفاق الأوائل. رئيف خوري، ويوسف إبراهيم يزبك وعمر فاخوري وفريد فرح وقدري قلعجي وغيرهم من الشيوعيين. وللشيوعية مقاييسها ومعاييرها في الأدب وفي الصحافة في التاريخ، ولطالما كان المعيار الأساسي لتحديد نسبة «التقدمية» و«الرجعية» هو الموقف من الشيوعية نفسها، ومن صورتها الأسطع في زمانها، الاتحاد السوفياتي. «الطريق» لم يكن قصيراً وما زال طويلاً، وعلى ضفافه قد تلتقي الأسماء الكبيرة والصغيرة.

يضم العدد مقالات الرعيل الأول: محمد دكروب، أنطوان ثابت، مهدي عامل، حسين مروة وعمر فاخوري
وقد تحتاج إلى غربلتها وأنت تقرأ «عدداً خاصاً» صدر أخيراً. خريف 2016 ــ شتاء 2017. خاص، وفيه الكثير من الذاكرة، ومن التجاعيد. يجب أن نتفق على أن شكل المجلة ليس عصرياً، وأن المقالات مقطوعة من زمنٍ جميل لكنه قديم. وأن «الطريق» يحتاج إلى تحديث، رغم أن قول محمود درويش يصحّ على مجلتنا: «الطريق إلى المنزل، أجمل من المنزل».
عملياً، يمكن تقسيم حياة المجلة إلى مراحل. لكن ذلك لا يمكن عاطفياً. فالمجلة هي جسد واحد يمتد في الزمن، ويتأثر بالمرض والوهن والكبر. ثمة تجاعيد على «الطريق»، لا تلغي خفة ظلها، أو ضرورة حضورها الرصين. في الأربعينيات سارت المجلة بلا صخب يذكر، لولا حادثة رئيف خوري. وهو صخب تراجعت عنه المجلة لاحقاً في الثمانينيات، عندما كتب محمد دكروب عن رئيف خوري، ووصفه بأنه من الأعلام ومن المؤسسين. لكن ذلك أتى متأخراً. نتحدث عن زمنٍ سحيق، عن «توضيح» في الثمانينيات، لحدثٍ وقع في الأربعينيات. وهذا ما قد يظهر «الطريق» طويلاً ومملاً، لكن سراديب الذاكرة قد تغوي كثيرين أيضاً. فالخلاف بين المجلة وخوري، كما يقول معاصرون، كان بسبب سجالات في جوهرها ما زالت صالحة حتى اليوم على الأقل في بلادنا، ويا لها من مفارقة. سجالات عن العلاقة بين النخب والناس العاديين، وعن دور الأيديولوجيا في تأطير الديموقراطية وفي طمسها. إدارياً، وكي لا تغرقنا «المرحلة»، من الإنصاف، ربما التذكير بعدد الثمانينيات، إذ إننا نسير على عقود طويلة: «كلمة وفاء أمام رئيف خوري: إنّ فضل رئيف خوري على «الطريق» كبير جدّاً». واستمرت «الطريق» وفيها محطات كثيرة. في 24 شباط (فبراير) 1986، اغتيل سهيل طويلة، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، ورئيس تحرير المجلة، في منطقة المصيطبة. وبعد عامٍ واحد، اغتيل حسين مروة، أحد أبرز الوجوه الثقافية البارزة في لبنان والعالم العربي. كان أديباً وشاعراً ومفكراً بدأ حياته في النجف، وانتهى ماركسياً وقيادياً بارزاً في الحزب الشيوعي اللبناني، والأهم، في سيرتنا هذه، أنه ترأس مجلة «الطريق» الثقافية من عام 1966 حتى تاريخ اغتياله. وبعده بشهور قليلة، اغتيل حسن حمدان، مهدي عامل. مهدي، مهدينا، الألتوسيري الغني عن التعريف. ترنحت «الطريق»، مع ترنح الحزب الشيوعي ومفكريه في لبنان، تزامناً مع ترنح الشيوعية في العالم. بعد عامين، سقط جدار برلين، وبعدها الاتحاد السوفياتي، والجميع يعرف بقية السردية، كل على طريقته.

إضاءة على النضال الشيوعي العربي ضد الفاشية والنازية، وصولاً إلى تاريخ لبنان الحديث والمعاصر

بالنسبة إلى محمد دكروب، كانت المجلة هي الحزب، والحزب هو المجلة. المنبر والطريق. وكان الراحل نوستالجياً في قصته، في مجيئه إلى الحزب وإلى المجلة نفسها. لكنه كان مخلصاً وشغوفاً، وكما يقول العارفون محباً. استقطبت المجلة رجال دين تنويريين كالسيد هاني فحص من لبنان، وفي مرحلة لاحقة كتب فيها المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أيضاً. كل على «الطريق» لديه قصته وسرديته، «الطريق» اتسعت للجميع. ولأن دكروب قضى وقتاً في مكاتب المجلة وقضت وقتاً فيه أكثر من الباقين، يمكن أن يكون قد خطا خطوات أكثر من غيره. في إحدى المحطات الوداعية، يتذكر كريم مروة، صديقه، السنوات العشر التي اشترك وإياه فيها بإعادة إصدار المجلة بين 1993 و2003. في 1992، كانت الذكرى الخمسون للمجلة، وتوقفت في يوبيلها. آنذاك، «قرر محمد (دكروب) أن يودعها بعدد خاص ضمّ صفوةً من المقالات والدراسات التي كانت قد نشرت في أعدادها السابقة، وعدداً من المقالات بصيغة شهادات حول تاريخها ودورها كتبها عدد من المثقفين اللبنانيين والعرب».
وبعد محاولات واتفاق مع الحزب الشيوعي، عادت في السنة اللاحقة، وركّزت على قضايا متعلقة باليسار العربي مستقبله في مرحلة ما بعد انهيار التجربة الاشتراكية. في 2005، عادت «الطريق»، هذه المرة برئاسة طانيوس دعيبس. الشيوعي القديم، والمنشق حديثاً آنذاك، إلى «اليسار الديموقراطي». لكن روح «الطريق» بقيت روحها. ضم العدد مقالات من «الوزن الثقيل». كتب نصر حامد أبو زيد حول الدين والمستقبل، والدكتور جيروم شاهين حول إصلاحات الكنيسة وإخراجها من المفهوم الطائفي، إلى جانب مقال للناقد المسرحي عبيدو باشا حول تجربة المسرحي اللبناني الفرنسي جورج شحادة بعنوان «الهجرة إلى دواخل الذات»، إضافة إلى مقال للباحث المغربي كمال عبد اللطيف تناول فيه جوانب التحديث السياسي في العالم العربي. وفي 2013، وعندما كان دكروب رئيساً للتحرير من جديد، ويُعدّ لعدد خاص، توفي. وتوفيت معه الطريق.




وجوه المجلة



محمد دكروب
(1929 ــ 2013)


في صور، كانت بدايته. كان طفلاً أكبر من عمرهِ، لكنه احتفظ بالطفولة في قلبه الكبير. اضطر إلى ترك الدراسة والعمل مع والده، وتنقل بين مهن عدة. كان كادحاً حقيقياً، لم يمنعه العمل عن شغف القراءة والسينما والثقافة بمعناها العضوي. انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وتدرج فيه، حتى صار رئيساً لتحرير المشروع الأقرب إلى قلبه في الحزب: مجلة «الطريق». وظل في منصبه حتى وفاته في 2013، بينما كان غارقاً في ملفاته ومكتبته وضحكاته.



حسين مروة
(1910 ــ 1987)


ولد حسين مروة في حداثا الجنوبية، القرية الملاصقة لحاريص، قرية ابن عم والده كريم، الذي سيصير رفيقه لاحقاً، ويسهمان معاً في مسيرة الحزب الشيوعي اللبناني، بعد ذاكرة مشتركة لهما في النجف العراقي. كان حسين مروة كاتباً سجالياً وإشكالياً، وألف واحداً من أكثر الكتب إثارةً للضجة في زمانها: «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية». اغتيل هو الآخر من قبل «إسلاميين» في بيروت الغربية، حسبما تقول الاتهامات، في شباط (فبراير) 1987، في الفترة التي كان ناشطاً فيها في مجلة «الطريق»، وبعد عامٍ واحد فقط، من استشهاد الرئيس السابق للتحرير، سهيل طويلة.


مهدي عامل
(1936 ــ 1987)


سُرق مهدي عامل من أحلامه في يومٍ أسود، في أيار (مايو) 1987. كائناً من كان الذي اغتال المفكر اليساري الكبير، فإنه يمثّل الظلام بعينه، وإن كانت الجهة التي اغتالته ليست واضحة ومحددة تماماً، بسبب التغيرات التي حدثت في بنية الأحزاب المسيطرة على بيروت الغربية بعد ثلاثين عاماً. ترك حسن حمدان (وهذا اسمه الأصلي) الكثير من المؤلفات، أبرزها «مقدمات نظرية: لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني».



كريم مروة
(1930)


قلة هم الذين يعرفون أنَّ كريم مروة أرسل هو الآخر إلى النجف الأشرف عندما كان في السابعة عشرة من عمره. في حاريص الجنوبية، ولد الكاتب والمفكر الشيوعي، ثم تنقل في محطات عدة، قبل أن تستقر به الحال باكراً في الحزب الشيوعي، ويسهم في تأسيس مجلة «الطريق»، والإشراف عليها، كما يحسب له القيام بدور بارز ولافت لإعادة صدورها عام 1993، بعد توقفها لعام واحد. لكريم مروة عشرات المقالات والمؤلفات.




الحنين إلى التأسيس


يتوزع العدد الخاص، الذي صدر أخيراً من مجلة «الطريق»، على ثلاثة فصول رئيسية. في الفصل الأول، عرض وافر نسبياً لـ «ذاكرة الطريق، الحلم والتصميم»، وفيه مقالات من الأرشيف العتيق، لمن يصح وصفهم بالرعيل الأول، من ضمنهم محمد دكروب، وأنطوان ثابت، ومهدي عامل، وحسين مروة وعمر فاخوري، تُراوح في فترات نشرها وتتفق جميعها على أهمية النقد. أما الفصل الثاني، فهو الأكثر ثراءً، إذ يضم «شهادات» لكتّاب كبار، كسمير أمين (الصورة)، الذي يكتب عن «الطريق»، من أجل «ردم الفراغ»، إلى جانب مقالات مهمة لعدنان الأمين، ومسعود ضاهر، ويوريس كوموتسكي وغيرهم. وفي الفصل الأخير، سلسلة «إضاءات» على محطات تبدأ بالنضال الشيوعي العربي ضدّ الفاشية والنازية، وتنتهي في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر.




إيفلين تتذكر مهدي

في مشاركة لها، بعنوان «تحية إلى الطريق»، تتذكر إيفلين حمدان زوجها حسن حمدان، مهدي عامل، وتروي قصة التحاقه بالمجلة: «منذ عودته إلى لبنان سنة 1968، بعد إتمامه الدراسة في مدينة ليون الفرنسية، وسنوات عمله التطوعي في مدينة قسطنطينة الجزائرية، اتصل بالمجلة التي كانت قد أثارت اهتمامه قبل ذلك بمدة طويلة، بنشاط القائمين على مسيرتها. واستقبلت المجلة بحثه الأول، الذي أسس لمشروعه النظري: «الكولونيالية والتخلف»، فكان له صدى واسع، وهو البحث الذي أطلق اسمه المستعار، الذي سيلازمه إلى الأبد.