«باسل أنت مش حتمثل العرض الجاي، حكيت زياد وهو منيح ومصرّ يمثل». حسناً، هذا كان متوقعاً وأنا لم أخض تجربة التمثيل على خشبة «زيكو هاوس» إلا مرة واحدة. أحب مشاهدة العرض كما أحب يوم الجمعة وساعات التمرين فيه. كنت قد دعوت أصدقائي لمشاهدتي، والآن سأعاود الاتصال بهم لأعلمهم بأني لن أكون على قيد الخشبة خلال العرض المسرحي الأربعاء.
توافد الناس الى الغرفة، وجلسوا على مقاعدهم برفقة دندنات العود الباردة. الممثلون يرتدون الفلكلور التفاعلي الأسود.
افتتحوا الحداد برقصة متناغمة مصحوبة بأغنية «أنا قلبي دليلي قالي هتحبي دايما يحكيلي وبصدق قلبي أنا قلبي دلي.. لي لي.. ليلي». كأنما كانت تتراقص بينهم الجميلة ليلى مراد بتناسق مع الألوان السوداء. أستمع لكلمات الأغنية بينما أتذكر كيف شعرت ببرودة الكرسي بعدما أخبرتني فرح بأني لن أكون معهم اليوم. تركت الكرسي لصديقتي وجلست على الأرض كمتسول يرمق المارّة بأجمل النظرات. حملت الكاميرا بين يدي لألتقط الألوان، وحملت دموع صديقتي لألتقط بها مشاعر الحب التي تملأ المكان.
ضحكات الجمهور تعلو وتسبح مع قصصهم الجميلة، بينما يرشدها شهر الحب الى بر الأمان. المشاعر تتدفق وتتفاوت من شخص إلى آخر. نور تقف على خشبة المسرح كقائد الأوركيسترا تسأل عن حال الجمهور وتختار جرعة من القصص المتناغمة وترميها للفرقة كي تعزفها بدورها على أوتار الحب.
صديقتي لم تستطع منع نفسها من البكاء أبداً، شعرت بأنّها جزء من حال الناس وقصصهم. وشاركتهم الحب والأسى وشاركتني سعادتي.
فتاة الى جانبي تكلمت عن حالها وعن عدم قدرتها على التعلق بأحد. قبل أن يبدأ الممثلون الأربعة بالأداء، ابتسمت نور لأنها أخذت ما تحتاجه من مشاعر تلك الفتاة ووضعته في عبارة واحدة «خلينا نشوف».
أعاد الفرسان تمثيل مشاعر الفتاة أم أنهم أعادوا سردها. (كأنهم يحاربون وحش الحزن في ضحكتها ورقصوا على جناحيه). صفق الجميع وضحكت الفتاة وبكت صديقتي، واستمرت القصص بشق طريقها بين مقاعد الجمهور. بعضها حمل غضباً جمّاً ورسم تعابيره على وجه المسرح وبعضها كان مضحكاً ببساطته وبالأشكال التي استخدمها الممثلون لنقل الحالة كما هي.
نحن على سطح المبنى في غرفة خشبية مليئة بالأشخاص والحكايات (كأنما وقف الموجودون على أرجلهم ليفسحوا المجال للقصص الجميلة بالجلوس). الطقس بارد بعض الشيء والريح تسترق النظر الى العرض المسرحي. تطرق الباب، لكن يونس يرفض أن يدخلها بحجة أن اسمها ليس موجوداً على اللائحة. ولكن ما الضرر في ذلك؟ فحتى الريح قتلت «دون كيشوت»، تواطأت مع الطواحين وقتلته. دعها تدخل يا صديقي لعلها تحكي لنا القصة من منظورها هي، ويعيد الفرسان كتابة الأحداث بوجوههم وأيديهم. يعيدون تمثيل الحب والحزن والضحك وحتى الموت.
يتأرجح الممثلون مع العزف الجميل، فلا يكتمل العرض من دون الألحان التي يصدرها علي على عوده الرنان والخطوات الموسيقية التي يصدرها عبدالله مع صديقه الدف الذي يرافقه أينما ذهب. وتقف هناك على المسرح كرسي الراوي تنتظر قصصاً طويلة كي تمر عليها وتترك بصمتها على طلائها. اختارت نور أحد الموجودين ليجلس على كرسي الراوي ويتحدث عن تجربة في حياته بينما يستمع فرسان المسرح الى قصة الراوي. راديكالية وأسلوب حياة وروتين يومي دمرت حياة هذا الشاب العاطفية، ومشاعر وانتحار واصغاء والمزيد من المشاعر أيضاً تفيض بينما يستعد الممثلون لتجسيدها وتحويلها الى هدية مطرزة بالعبر.
«مين بدك يمثل قصتك من الممثلين؟»
كانت ضحكة فرح الأقرب لأن يختارها الشاب، وكانت أيضاً الأقرب بأدائها لاسعاد الشاب بمساعدة الباقين. فقد أعادوا تمثيل الأحداث والمشاعر الحزينة التي راودت الشاب واحتكت معهم ومع كل الموجودين في الغرفة. بينما تركوه يغرق ونظراته في جو تفاعلي مليء بالموسيقى والفرح.
الأيادي ارتفعت نحو السقف (كأنهم يعطون الثقة لقائد شعبي). كل منهم يمتلك قصة ويريد أن يجلس على العرش ويتلو على الجمهور بطولاته وأحلامه. وقع الخيار على صديقتي الجميلة. وبينما كانت تتحدث عن أحلامها بأن تصبح طبيبة في بلد لا تصلح فيه الأحلام، شعرت فتاة من الجمهور الخلفي بالدوّار وأغمي عليها. ربما حان الوقت يا صديقتي بأن تكوني طبيبة، فكل القصص والأحلام تحتاج لغرفة صغيرة لتطلق العنان لها.
استعاد الحاضرون وضعيتهم بعدما اطمأنوا على الفتاة وراحوا يشاهدون قصة صديقتي تتجسد أمامهم كعمل بطولي نفذه الفرسان باتقان. وضحكتها كانت خير دليل على ذلك.
انتهى العرض وشكر الممثلون كل الحاضرين على طريقتهم الخاصة، وعزف العود والدف أغنية «يا قصص عم تكتب أسمينا»، وصعدت أنا وباقي أعضاء الفرقة لنغني الأغنية، تاركين ضحكات الجمهور تحيك نسيج الحب والرقصات التفاعلية التي تضيف الى الفولكلور الأسود الكثير من السعادة والدموع.
فكلما صادفت شخصاً من الحاضرين سألني «متى تعيدون هذه المغامرة؟». كأنما يريد أن يعاود المرور من تلك الغرفة الواقفة على سطح «زيكو هاوس»، كموعد أو ارتباط أو جزء من سلوكه وروتينه قبل أن يمر على الحانة في شارع الحمرا. قبل أن يعانق الرصيف وأحزانه، عليه أن يفرح ولو لساعة ونصف. علينا جميعنا ًأن نفرح كل ثاني أربعاء من كل شهر ونصافح الفرسان الأربعة والعود والدف ونور أيضاً.