في دورته الـ 23، يوجّه «مهرجان السينما الأوروبية» تحيّة إلى السينمائي والمسرحي البولندي الأهم في القرن العشرين، أندريه فايدا (١٩٢٦ – ٢٠١٦). رحل هذا المعلّم عن عالمنا في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بعد تجربة اعتبرها كثيرون أساس مرحلة التكوين للسينما البولندية، وجزءاً لا يتجزأ من عمليّة إعادة صوغ الهوية الفردية للبولنديين والجمعية للأمة البولندية في بلاد عانت لعقود من ويلات الاحتلالات الأجنبية والحروب وصراعات السلطة.
لم يبق في بولندا شيء تقريباً لم يخرج فايدا عنه فيلماً. أرّخ لبولندا المعاصرة والقديمة، وقدّم الأدب البولندي للسينما، والمسرح العالمي لبولندا، وخاض نضالات سياسيّة وجدالات فكريّة هائلة مسلحاً بالكاميرا وبالموقف غير الملتبس أبداً.
كان فايدا قد حصل في ١٩٩٠ على جائزة الفيلم الأوروبي على مجمل أعماله ليكون ثالث مخرج بعد فيدريكو فيلليني وإنغمار بيرغمان يحظى بمثل هذا التكريم، ومنحته بلاده وسام النسر الأبيض الأرفع في ٢٠١١.
بدأت رحلة فايدا مع الشهرة بوصفه أبرز وجوه مجموعة السينمائيين البولنديين المشهورين باسم «مدرسة الفيلم البولندي». قدمت الأخيرة أعمالاً عديدة خلال الفترة بين ١٩٥٥ و١٩٦٣ اعتبرها النقاد غاية في الأهميّة بسبب طريقة تناولها تعقيدات التاريخ البولندي المعاصر، لا سيما الاحتلال الألماني النازي لبولندا خلال الحرب العالميّة الثانية. تمردت هذه المجموعة مبكراً على أسلوب الواقعية الاشتراكية الذي سيطر على أجواء الأعمال السينمائية في الدول التي كانت تدور في فلك موسكو حينها، واختارت أن تقدم أعمالاً بأسلوب أقرب ما يكون إلى نماذج الواقعيّة الجديدة كما هي في سينما الخمسينيات الإيطاليّة.
اصطف فايدا سياسياً ضد الحروب والاستبداد والحكم الأجنبي مبكراً سواء في أعماله السينمائيّة أو المسرحيّة، هو الآتي من أجواء المقاومة البولنديّة والجيش الوطني البولندي. فيلمه الأول A Generation (١٩٥٥) كان احتجاجاً على الحرب، تتابعت بعدها أعمال ضمن الثيمة ذاتها، حققت نجاحات تجاريّة وجلبت له انتباه الغرب المتلهف لسماع صوت معاد لموسكو يصدح خلف الستار الحديدي. هكذا، أنجز فيلم Kanal (١٩٥٦) الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في «مهرجان كان السينمائي» في ١٩٥٧ وAshes and Diamonds في ١٩٥٨.
كانت الأجواء السياسيّة في بولندا متساهلة نسبياً بعد عام ١٩٥٦، مما سمح باستمرار تجربة «مدرسة الفيلم البولندي» سنوات عدة، فحققت انتشاراً واسعاً. لكن فايدا كان يعلم دائماً أنّ هناك حدوداً لتساهل الرقيب. لذلك، انطلق في تجربة ثريّة مختلفة في أجواء الرمزيّة والسورياليّة، فكان Lotna (1959) الشديد التعقيد. وفي الستينيات، انخرط بما عرف بأفلام الموجة الجديدة، وأخرج أفلاماً عدة ذات مضامين سياسيّة عن روايات لكتاب بولنديين لعل أهمها Samson (١٩٦١) عن قصة ولد يهودي يحاول النجاة أثناء فترة الاحتلال النازي لبولندا، وكذلك Siberian Lady Macbeth (١٩٦٢) التي تستكشف حياة النساء الأوروبيات في القرن التاسع عشر وإيقاع العيش في الأطراف على نسق رواية «مدام بوفاري» لفولبير.

راوحت أعماله بين نقد
الستالينية وتقديم الأعمال الأدبيّة والملاحم الشعريّة البولنديّة

مسيرة فايدا سمحت له بإخراج أفلام شخصيّة الطابع، فأنجز Katyn (٢٠٠٧) الذي رشح للأوسكار عن المذبحة المريعة التي أوقعها السوفيات عام ١٩٤٠ بالجيش البولندي، وقضى فيها والده الضابط. وقبل ذلك، كان فيلمه Everything for Sale (١٩٦٨) بمثابة تحية مغلفة بحزن عميق لروح زميله المقرب المخرج زيبغنو سيبولسكي الذي قتل في حادثة قطار مؤسف.
فترة السبعينيات كانت مرحلة نضوج تجربة فايدا الفنيّة بكل أبعادها التقنيّة والفكريّة ومضامينها السياسيّة، فأخرج فيلماً رئيسياً كل سنة تقريباً كأنه في سباق مع الزمن، تراوحت بين نقد الستالينية وتقديم الأعمال الأدبيّة والملاحم الشعريّة البولنديّة منها The Birch Wood (١٩٧٠) الذي شارك به في مهرجان السينما العالميّة في موسكو، وحاز الجائزة الذهبيّة للإخراج، وأيضاً The Maids of Wilko (١٩٧٩) الأشبه بمتاهة سيكولوجيّة لرجل يعود إلى مسقط رأسه بعد عقود من الغربة ليعيش خيبات الأمل مع كل أنواع النساء في عائلته، بعدما غيّرهن الزمن أثناء غيابه.
لم تقدر السينما أبداً أن تنسي فايدا عشقه القديم: المسرح. كان يجد الوقت دوماً لإخراج مسرحيات عن أعمال كلاسيكيّة عديدة كـ «هاملت» شكسبير، و«الممسوس» لدوستويفسكي وغيرهما من النصوص المسرحيّة المفصليّة لكتاب عالميين وبولنديين.
في الثمانينيات، انخرط فايدا في حركة «تضامن» العماليّة البولنديّة المعادية للسلطات الشيوعيّة، فكان فيلمه الشهير Man of Iron (١٩٨١) الذي ظهر فيه زعيم نقابات العمال - والرئيس البولندي لاحقاً - ليخ فاليسا بنفسه، ويحكي قصة مبنية على وقائع حقيقية لانقلاب عامل بولندي في أحواض بناء السفن من ناشط اشتراكي إلى منشق يواجه السلطات. الغرب المأخوذ بصراعات الحرب الباردة، سارع إلى منح فايدا السعفة الذهبيّة في «مهرجان كان السينمائي» عن ذلك الفيلم، بينما ردت سلطات بلاده بإغلاق شركته الخاصة للإنتاج. لكن ذلك لم يوقف تدفق إبداع الرجل، فاستمر في الإنتاج والإخراج، وحصد الترشيحات والجوائز العالميّة البارزة إلى وقت متأخر من حياته. آخر أفلامه حمل اسماً موحياً هو «ما بعد الصورة» (2016) أكملته زوجته الرابعة المخرجة غازيتا فيبورسيزا بعدما رحل فايدا كأنه لم يقل كلمته الأخيرة بعد.
علّم فايدا حرفة السينما والإخراج لأجيال من السينمائيين البولنديين، وأسس لاحقاً أكاديميته الخاصة للسينما، ولا يختلف أحد اليوم على أنه ترك بصمة لا تنسى في تجارب البولنديين الشخصية في فهم ذواتهم ورؤيتهم إلى العالم طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

The Maids of Wilko: س: 22:15 مساء السبت 29 كانون الثاني
Afterimage: س:20:00 مساء 2 شباط