الكتب تسعد وتشقى كما يقول ميخائيل نعيمة. هي مثل البشر، بعضها يموت ساعة الولادة، وبعضها يفنى شاباً، وبعضها يشيخ، ثم تطويه المنايا كأنه لم يكن. من الكتب ما يموت مع موت صاحبه، ومنها ما تبقى فيه نسمة الحياة، بعد العودة من جنازة الكاتب، فيبقى حياً في ذاكرة جيل أو جيلين، وربما ثلاثة أجيال وأكثر، ومنها الذي يبلغ درجة فائقة من الإثارة، فتخلع الجموع عليه عباءة القداسة، كأنه وحي يوحى، ويبقى حياً على الورق وفي الصدور، ما دام الناس أحياء يُرزقون.
من الكتب ما يُشرى بداعي المجاملات، كما الأمر في معارض الكتب، ومنها الذي يخاطب الأزمنة على اختلافها، ولا يخاطب زمنا محدداً، ويبقى جديراً بالقراءة متى كان مضمونه جيداً وجديداً. وفي صناعة النشر دوماً مفاجآت، فقد تجد شاعراً يفاجئك جديده، فتجد أنه ليس بمستوى قديمه من الجودة والإتقان، أو قد تجد جديده قد خالف قديمه أشد المخالفة، وتفوق عليه، إلى درجة تحسب أن الشاعر الذي نظم هذه القصائد، هو غير الشاعر الذي طالعنا ديوانه في ما سبق.
ليست عناصر المفاجآت وقفاً على الشعر، إنها تدخل في ميادين المعرفة بضروبها المتباينة.

أحسنت في اختيار
ورق الكتاب،
والغلاف والألوان
من تلك المفاجأة كتاب «منام الماء» للكاتبة اللبنانية خيرات الزين. المؤلفة معروفة في الوسط الثقافي كفنانة تشكيلية، وكان من المتوقع أن يحمل كتاب من وضعها صوراً من ريشتها، لكن المفاجأة، أنه ضم إلى جانب الصور فصولاً من النثر . في هذا الكتاب، تصور خيرات الزين حروفاً، وتكتب نصوصاً مطرزة بالحروف ذاتها، فإذا طالعك حرف الدال على سبيل المثل، وجدت نصاً على هذا النحو: «الدال هي أول الدنيا والدين، وهي آخر الجسد والأبد. دخلت من دون دليل إلى منبع الدر. هي قلب آدم ودليله، وهي الدواء لكل داء، وهي الدواة لكل قلم دافق». وإذا طالعك حرف الشين، جاء النص كالآتي: «الشين تحمل شراب الشفاء في شهدها، ومن شميمها شم النيم، يشعل شذاها شوق العاشق. تمر كشبح، وتستمر كمشهد في عشايا الصيف. ترافق الشخص من شبابه إلى شيخوخته. فمن شب على شيء، شاب عليه. إنها شبق الشمعة عند اشتداد الظلام، وابتسامة الفجر حين بشّرته بالشروق. أليس تكريماً لحرف الشين أن يكون مدخل الشعر، فشريعة الشعر أولها الشعور، كما شرارة الضوء بداية شعاعه»، وقس على ذلك مع بقية الحروف.
في «منام الماء» تتجلى الحروف وتكتسب رفعة وأبهة، وتبدو كأنها في مسابقة من مسابقات ملكات الجمال، والجمال هنا ليس شكل الحرف وحده مصوراً بريشة الفنانة، بل أيضاً بما يختزنه من معان حين ينضم إلى بقية الحروف، فيؤلف كلمة ومعنى، لكنه يبقى مع ذلك، متفرداً بذاته مستقلاً، ومتوجاً بعرشه. لا يمكن الناظر في صور الكتاب، إلا أن يبدي إعجابه بصنيع الفنانة. أما النص، كما أي نص، فمحكوم بمعايير النسبية، وقد يروق لشخص ولا يروق آخر. وآدابنا، القديم منها والحديث، لم تكن يوماً بريئة من الصنعة المتعمدة في أي حال، وقد يجد قارئ «منام الماء» أن خيرات الزين اعتمدت النهج ذاته، لكنها فعلت ذلك بحذاقة تنسي القارئ ما في نصوصها من نسج مستعار، فإذا بالجسد القديم قد ارتدى أردية جديدة، والكاتبة صبية تصور الحروف بنضارة، وتداعبها بغنج ودلال، ترسمها وتكسوها بزخرف لا تكلف فيه، وبعفوية تنساب كما أدب السهل الممتنع.
أحسنت خيرات الزين خيراً في اختيار ورق الكتاب، والغلاف والألوان، وفي ترتيب صور الحروف وسرد سيرها الذاتية بكلمات مقتضبة. خالفت نهج كثير من دور النشر التي تطرح كتباً تشق على العقول والأبصار. عليه نتساءل: هل أجادت هذه الفنانة الكاتبة كل الإجادة؟ نحتكم مجدداً إلى أحكام النسبية في ما يتصل بالصور والنصوص معاً، لكن الشيء الذي لا شك فيه ولا خلاف عليه، هو أن خيرات الزين قدمت جديداً، لا عهد لنا به من قبل، لا من قريب ولا من بعيد.
المؤلفة مصورة، تعرفها معارض بيروت ووسائل إعلامها، وهي في كتابها هذا تطبع نثراً غريباً، وتصب فيها قدراً من الغواية ليس بقليل، ولا نبالغ إذا قلنا إن «منام الماء» بما فيه من جديد، رسماً ونصاً، فاق في شكله ومضمونه كتباً كثيرة تحفل بها أسواق الكتب، ولو أنه قصر في بلوغ الدرجة العالية من الكمال. عليه نقول، إننا كنا نود لو أن الفنانة الكاتبة اختارت عنواناً آخر لهذا الكتاب القيّم، فحرف اللام حين يتردد في كلمتين، ثقيل على السمع ثقيل على القراءة. كان من الأنسب كذلك، لو أنها راعت علامات الترقيم والتشكيل، بحيث تكون النقطة مكان الفاصلة، والفاصلة المنقوطة مكان الفاصلة العادية، والفاصلة العادية حيث يجب النقطة أن تكون، وهذا ظاهر في صحائف مختلفة من الكتاب. كان يجب مراعاة كتابة الهمزة أيضاً، مثل همزة القطع في كلمة «إبنتي» المدونة في سطور الإهداء، إذا كان يجب أن تحذف، أو تكون موصولة. في النص أيضاً، نرى النقاط الثلاث (...) يتردد شكلها في كثير من السطور، وهذا لا لزوم له ولا ضرورة، وفيه استخفاف بعقل القارئ ومخيلته، فضلاً عن أنه خارج على تقاليد كتابة النثر العربي، وعن تقاليد أي لغة أخرى على حد علمنا.
جاءت بعض السطور أيضاً كأنها خضعت للحروف خضوعاً كاملاً وبأي طريقة، ما جعل المعاني تغور تحت ستار من الغموض والتجسيم، وبدت غير مألوفة كما في باب حرف الجيم، حيث استخدمت كلمة جرس لفعل التجويد، كما في جملة «كم من جرس كنيسة جود قرآناً وكم من مئذنة جامع رتلت إنجيلاً»، لا لشيء، إلا لأن في الجرس حرف جيم! هناك أيضاً كلمات زائدة في كثير من السطور كان من البلاغة أن تحذف، مثل كلمة «جامع» في الجملة المذكورة، إذ يكفي أن نقول «كم من مئذنة رتلت إنجيلاً»، بدلاً من إضافة كلمة جامع، لأن المآذن لا تكون أصلاً إلا في الجوامع!
مهما يكن من أمر هذه الهنات، وحجمها وعددها، وهي لا تخفى على القارئ الرصين في أي حال، فتبعتها لا تقع على الفنانة الكاتبة وحدها، بل على دار النشر (دار عالم الفكر)، وعلى العاملين فيها من المدققين في المقام الأول. وإذ نشير إليها، فمن باب لفت النظر، وتعزيز الأمل أن يبلغ كتاب من هذا النوع الدرجة اللائقة به من الكمال، هذا إذا ما نوت الفنانة الكاتبة يوماً أن تنشر منه طبعة ثانية. مهما يكن، يبقى «منام الماء» بشكله الحالي، أفضل من مئات الكتب التي تلدها دواليب المطابع، وتنشرها الدور العربية في لبنان وغير لبنان، وهو خليق بأن يقرأ ويحفظ في مكانه المناسب بين الكتب القيّمة.