في سنوات قليلة، بنى المخرج جاك مارون مساراً فنياً خاصاً به في بيروت، تعتمد قوامه الأولى على اقتباس نصوص معاصرة لكتّاب أميركيين وتقديمها في قالب واقعي يتمدد فيه الفضاء مفتوح وواسع، فاسحاً المجال لجعل الممثل العصب الأول والأخير للعرض. بعد reasons to be pretty للمخرج والسيناريست والكاتب الأميركي نيل أن. لابوت تلاه «كعب عالي» للكاتبة الأميركية تيريزا ريبيك و«فينوس» لدايفيد آيفز، و«إخت الرجال» المقتبس عن نص لإيلاين ماي، يأتي التعاون الثالث اقتباساً مع غابرييل يمين في «فرضاً انو» المبنيّ على نصّ Virtual Reality للممثل السينمائي والمخرج والكاتب المسرحي آلان آركين.
نص غني بتصاعد درامي عبثي ومضحك، سرعان ما يتحول إلى لحظات حاسمة ومشوّقة

في «فرضاً انو»، لن يقتصر دور غابرييل يمين على الاقتباس فقط، إذ سيتشارك هو وطلال الجردي في بطولة العرض وفضائه وجمهوره الذي أغرته لمدة ما يقارب الساعة تلك العلاقة الغرائبية التي تجمع هذا الرجل الخمسيني (غابرييل يمين) بمرؤوسه الأربعيني (طلال الجردي).
في فضاء تميل ألوانه إلى العفونة وتحيط به أنابيب كهربائية وسوران بأسلاك حديدية ومدخلان دائريان يوحيان بأننا أمام مستودع يحمل في طياته بعض عناصر العالم السفلي الذي تفترشه سبائك خشبية ذات ارتفاعات متنوعة (سينوغرافيا شربل زغيب)، يدخل راضي (طلال الجردي) صارخاً مرحّباً بصوته الجهوري من دون أن يلقى الرد المطلوب لفترة من الوقت، حتى يأتيه صوتٌ يخرج عبر أنترفون تارةً من المدخل الدائري في عمق الخشبة، وطوراً يأتي من المدخل الدائري على يسار الخشبة... أمر يضع المشاهد وراضي في فضاء محكم بالتدابير الأمنية. «عرف عن نفسك». هكذا يطلب الصوت من راضي الذي ترك بطاقة هويته في المنزل. من هنا، تبدأ سلسلة الحوارات العبثية التي يديرها يمين الذي يخرج إلى الخشبة ليزيد من توتر العلاقة بين الطرفين. يبدو أن يمين هو المسؤول عن المستودع، وقد استُعين براضي لتفريغ حمولة خاصة بمشروع ما، لم تصل بعد. منذ اللحظة الأولى لدخولها على الخشبة، أجادت الشخصية الخمسينية المسؤولة عن المستودع التلاعب بمرؤوسها السريع الغضب الذي استفزته إجابات يمين الغامضة وغير الواضحة كما لو أنها تضمر أمراً ما. لعبة أرادها يمين عن سابق تصوّر وتصميم، كما لو أنها لعبته المفضلة التي يزاولها كل يوم ببرودة الأعصاب ذاتها، وبالتحكم نفسه: ريثما تصل الحمولة، على راضي أن يقوم ببروفة إيمائية لتفريغ الحمولة التي لا يعرف يمين شيئاً عن مكوناتها. تزداد اللعبة العبثية حدةً حين يدخل راضي مجبراً في اللعبة ويصبح الطرفان ضحيتي خيالهما ومخاوفهما. رحلة الخيال تلك، التي حفزتها لعبة قوّة بين رئيس ومرؤوسه، تصبح الحقيقة الوحيدة القائمة وتنتهي بتوازٍ في الضعف بينهما.
في لحظة من الفراغ والانتظار، يستطيع العقل أن يرتكب الجريمة مستنداً إلى واقع مليء بمخاوف تبدو لوهلةٍ بعيدة، وإذ هي أدنى إلينا من نَفَس الآخرين.
من تابع عمل مارون الأخير في «إخت الرجال» يرى بعض التشابه من ناحية المضمون في لعبة القوة بين طرفين، أحدهما مسيطِر والآخر مسيطَر عليه، تبدأ اللعبة بالانقلاب والتبدل حين يبوح المسيطر عليه برغبة دفينة في القتل، إلا أن النهاية في «إخت الرجال» مختلفة.
نص يمين غني بتصاعد درامي عبثي ومضحك لا يلبث أن يتحول إلى لحظات حاسمة ومشوّقة. أداء الممثلَين كان بارعاً، ولو أنّه كان ينقص طلال الجردي بعض اللحظات الصامتة وبعض التلوين في أدائه الغاضب في بداية العرض، الا أنه عالج ذلك لاحقاً بلحظات آسرة. إيقاع العرض كان مضبوطاً، ولعبت المؤثرات الصوتية دورها في إضفاء جمالية إخراجية أخرى على العرض.
«الحقيقة هي وهم، والوهم الذي لا نراه هو كل الحقيقة» في تلك الجملة كمن معنى العرض بأكمله.... هل جعلنا جاك مارون نتلمس الوهم الذي لا يرى؟

* «فرضاً انو»: 20:30 مساء حتى 20 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ «مسرح مونو» (الأشرفية) ــ للاستعلام: 01/202422