منذ أكثر من عشرين سنة (1995)، أعد المسرحي العراقي الكبير قاسم محمد (1936-2009)، مسرحية «مكاشفات»، مفترضاً أن يقف بنصها المثقل بالأسئلة أمام المسرحية اللبنانية نضال الأشقر، على الخشبة، برؤية درامية للمخرج العراقي حميد غانم. مسرحية تطرح أسئلة متجذرة في الوجدان العربي حول تاريخ الدم وحكم السيف في المجتمعات التي طال أمد تعثرها.
مسرحية تطرح أسئلة متجذرة في الوجدان العربي حول تاريخ الدم وحكم السيف
النص الذي لم يكتب لقاسم ونضال أن يجسدا جذوة أسئلته الحارقة، جسّده أخيراً المسرحيان العراقيان الكبيران عزيز خيون، وشذى سالم، على خشبة المسرح الوطني الجزائري «محيي الدين بشطرزي». قبل أيام، زيِّن المسرح بالبياض توسطته كرسي عرش فخم منتصبة بشكل يجعل المتابع يسأل نفسه: «هل تقف هذه الكرسي وسط السحاب أم وسط السراب؟». خيار اتخذه المخرج العراقي حميد غانم كديكور ثابت طوال العرض الذي يجسد شخصية الديكتاتور/ العاشق الذي اقتبسه قاسم محمد عن نصي «مكاشفات عائشة بنت طلحة» للشاعر السوري خالد محيي الدين البرادعي (1934-2008) و«أنا ابن جلا» للمصري محمود تيمور (1894-1973).
لم يكن الدكتاتور الذي تتحدث عنه مسرحية «الفرقة الوطنية العراقية للفنون المسرحية»، سوى الحجاج بن يوسف الثقفي، ولم تكن المعشوقة سوى آسرة قلوب الحكام والشعراء عائشة بنت طلحة. شخصيتان تاريخيتان عُرفتا بأثرهما الكبير، عرّى عبرهما المخرج تاريخ ثنائية الحاكم والمحكوم في العالم العربي. في لحظة عشق ونزق يسعى فيها الحجاج نحو عائشة، ينزل عن كرسي عرشه، متنكراً ليسمع صوتها ويراها، قبل أن تكشف لعبته وتقف وجهاً لوجه مع «متيمها» الذي لم يكن سوى قاتل زوجها، مصعب بن الزبير، وهو يحاول كسب ودّها في لحظة ضعف تدفعه لطرح السؤال الصعب عليها: «هل يمكنك مكاشفتي بخطأ يبرر ثورتك علي»؟! تتحول هي بعد تلك اللحظة إلى مرآة تنعكس عبرها كل الوجوه التي ترغب في مكاشفة الديكتاتور، بداية من العشيقة، الإنسان، الشعب.
تحتدم حالة المكاشفة في جو مسرحي لم يتعود عليه الجمهور الجزائري، الذي غالباً ما تنزع فرقه نحو نوع «المسرح الفقير» الذي يركز على الحركة أكثر من تأثيث المكان، وعلى الجسد أكثر من كثافة النص، بينما يحضر هذه المرة جو المسرح العراقي الذي يستحضر وهج المكان وقدسية اللغة الأصيلة، فيعم صوت خيون الجهوري بلغة موغلة في الشعرية أركان المكان. وبالطريقة نفسها ترد شذى سالم. وفي مد وجزر، يبرّر هو أفعاله بأن «الفتنة عمياء وسيف الفارس فيها أعمى»، وأنه «لولا السيف لانخفضت جدران المدن»، فتتلمس هي تلك الجدران الملطخة بتاريخ من الدم المتراكم وأذرع طويلة من الفتن، حتى تحولت إلى سجن يسج الماضي، الحاضر والمستقبل، وترد «لا الأمن يجيء ولا يذهب يوم العصيان».
تتخلل الحوار الطويل (90 دقيقة) للحجاج ومعشوقته، شخصية ثالثة هي «خادم العرض»، الذي يقطع المشاهد بشكل دوري ويظهر لدعم الحجاج بأشكال مختلفة، حتى عندما يستحم ويغير ملابسه، ويجسدها الفنان العراقي المميز فضل عباس. شخصية أقرب إلى شخصية «بهلول شكسبير»، فبينما يُلغى البعد الزمني، ويتحول العمل المسرحي إلى حوار شفيف يعكس ثنائية الحاكم والمحكوم، الديكتاتور والمعارضة، السلطة والشعب.. في كل زمن، يجسد «خادم العرض محاولة للتوغل في خلفية ومطبخ الديكتاتور، وللاشتغال على مستوى ثالث لتعرية الحجاج، مستوى بيني لإظهار الملهاة /المهزلة» كما قال فضل عباس لـ «الأخبار». عبر هذه الشخصية، يتكشّف أنّ للديكتاتور دائماً ظهراً يقوّيه، ومن هنا تتجلى وجوه عديدة للمأساة، مثل النخب، تلك التي تقاوم، أو الأخرى التي تتحول إلى أبواق للسلطة. هذا الدكتاتور الذي يتحسّس سيفه طوال العرض، وهو يُعدد مناقبه للمعشوقة/ المُكاشفة، وهي تحاول البحث عن الإنسان وسط تلك المناقب، يقول بوجه يعكس مدى السخرية السوداء: «أنا منهم جئت.. وهم صنعوا سيفي»! محاولة لتبرير بطشه يستعمل فيها تخاذل النخب واستسلام الشعوب بل دورها -أحياناً- في صناعة الطغيان، بل هو يحاول صدمها بحقائق حول من تدافع عنهم، قائلاً: «كثير منكم يتخلى عن ثورته ليلتحق بي»!
ربما لم تمنح الحياة فرصة لقاسم محمد، كي يعيش لحظة ما يسمى بـ «الربيع العربي» (بداية من 2011) ويطرح أسئلته، لكن المعالجة الدرامية لنصه «مكاشفات»، من قبل المخرج حميد غانم، جعلت اشتغاله على مواجهة كل سلطة تحكم بالدم بهواجس الحرية، تناقش تلك اللحظة في نهاية العرض. عندما ينفض الجميع من حول الحجاج ويحاول هو التسلل مجدداً نحو كرسي العرش ويصعده متعثراً، يتلاشى بياض الخلفية تدريجاً وتعوضه فيديوهات من مختلف الشوارع العربية حاملة شعارات «ارحل» و«هرمنا».