ما هو موقع المسرح اليوم؟ هل يمكن أن يقف الفن في مواجهة الأحداث السياسية الكبرى؟ ما هي العلاقة بين المؤدي والجمهور؟ أين حدود المسرح؟ ومتى تتهاوى الحواجز بين الواقع والمتخيل؟ تدفع تساؤلات ملحّة كهذه مهرجان «أرصفة زقاق» الذي ينطلق مساء اليوم ويستمر حتى 15 تشرين الثاني (نوفمبر) في فضاءات عدة في بيروت. قبل بضعة أعوام، أطلقت «فرقة زقاق» أرصفتها، التي تحوّلت من رغبة شخصية بصقل أدوات الفرقة، إلى منصة لتبادل الخبرات بين فنانين أجانب وفنانين محليين. هذه السنة، تشهد الأرصفة منعطفاً جديداً، إذ تخطو خطوتها الأولى نحو مهرجان مسرحي وفني معاصر في بيروت، عبر دعوتها عروضاً مسرحية وأدائية وموسيقية ومعارض ومحاضرات ونقاشات، وضيوفاً استثنائيين مثل المخرج المسرحي الألماني توماس أوسترماير (راجع الصفحة المقابلة) والمسرحي اللبناني روجيه عساف مع أوليفيه ساكومانو اللذين يتقابلان في طاولة مستديرة في «معرض الكتاب الفرنكوفوني» (بيال). اختارت الفرقة برنامجها بذلك الوعي الفني والسياسي الذي رافق عملها منذ انطلاقتها عام 2006. هذه المرة، دعت تجارب وفرقاً مستقلة من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. تجارب تتخذ من البحث في لغات الفن ودوره أسلوب عمل لها من دون أن تتنازل عن مساءلة الراهن السياسي والاجتماعي والسلوك البشري المعاصر على خلفيات علمية وفلسفية ونفسية تلغي الحدود بين الفنون. ربما هذا ما يميّز عرض أو معرض الافتتاح «دفن» لمارك ميتشيل عند السادسة من مساء اليوم في «دواوين» (الجميزة ــ بيروت). المصمم الأميركي الآتي من خلفية مسرحية، يحيي قيمة الموت في عرضه الأدائي أو تجهيزه الفني الذي قدّم قبل ثلاث سنوات، متحسساً علاقة الأحياء بالموتى. إشكالية يظهرها ميتشيل عبر خروجه عن السياق النمطي للتصاميم والأزياء المتخمة بفساتين الأعراس وأزياء المناسبات «الحياتية» الأخرى التي تستغرق جهود شهور. هذه حقيقة تطبع معظم اتجاهات تصاميم الملابس، بينما لا يوجّه أحد اهتمامه نحو الموت وكيفية ملاقاته أو الاحتفاء بأحبائهم الموتى. الفنان الذي يصرّ على أن اللمسة اليدوية هي التي تمنح الثياب سحرها، استوحى كل تصميم في العرض من المؤدي الذي يلبسه متجمداً طوال العرض. تستلقي أجسادهم الساكنة على مرايا تعكس وجوه المتفرجين في لقاء قريب مع الموت. موت تغطيه فساتين وعباءات بيضاء أخاطها ميتشيل يدوياً بكامل تفاصيلها كالجيوب والزخرفات والتطريزات. هذا الفعل الاحتفائي أو التكريمي للموتى، سرعان ما يستحيل فعلاً لاختبار إشكاليات الخلود والفناء حين يستخدم أقمشة من المواد الطبيعية كالحرير، تتحلل في الأرض مع الجثة. يستمر العرض حتى نهاية المهرجان في فضاء «دواوين» الذي يستضيف مساء اليوم أيضاً لقاء مع مارك ميتشيل حول عمله على قضايا وإشكاليات اجتماعية من خلال المنسوجات اليدوية، كما في مشروعه الجديد «دفن 2» حول إصلاح السجون والتفاوت العنصري فيها. المحطة التالية مع «أرض بلا كلمات» (8 و9/11 ــ س: 21:00) في «مانشن» (زقاق البلاط)، الذي قدّمته فرقة «سويت 42» المسرحية في فلسطين المحتلة قبل أشهر. الفرقة المقيمة في برلين أشبه بمحترف متواصل، يجمع أعضاء قادمين من خلفيات ثقافية متنوعة. مسرح «سويت 42» ليس حيادياً على الإطلاق. تورّط الفرقة أعمالها في اللحظات التاريخية الدموية والحروب والقتل والهجرة، كما في مشروع «ترجمات لغير المحكي» (2011) حول العنف الذي يشهده العالم العربي، وقد تعاونت فيه مع كتاب عرب؛ من بينهم عضو «زقاق» عمر أبي عازار، ومحمد العطار، وزياد عدوان وغيرهم. واليوم، أمام الحرب التي تهشم كل القيم، يبدو «أرض بلا كلمات» اختباراً صعباً وقاسياً لقيمة الفن والأخلاق في منطقة يتساقط فيها كل شيء. هذه المنطقة هي مدينة «ك» التي يتخذها العرض المونودرامي (أداء: لوسي زيلغير ــ إخراج: ليديا زيمكه ــ كتابة: ديا لور) مكاناً له في الشرق الأوسط. تقرر الكاتبة زيارة هذه المدينة، على أن تكتب عنها بعد عودتها. ماذا عساها تكتب؟ ستضلّ الكلمات طريقها حين يصبح الشك متعلقاً بوجود الإنسان نفسه. من مكاتب العمل ومرائب السيارات والمسابح والغاليريات والحمامات العمومية، تأتي فرقة «ملاك ثالث» إلى بيروت. تستلهم الفرقة البريطانية أساليبها وتقنياتها من هذه الفضاءات المختلفة، إذ تلجأ عروضها التجريبية إلى كل الفنون، نافية الحدود بين الفوتوغرافيا والمسرح والتوثيق والفيديو والأداء. وكما تستكشف الفرقة المعاصرة العلاقة مع المكان، تسعى إلى تطوير رابط مباشر مع الجمهور. عرضها «600 شخص» (10 و11/9 ــ س: 21:00) في «مانشن»، يمزج محاضرة في الفيزياء الفلكية مع الستاند آب كوميدي.
تورّط «سويت 42» أعمالها في اللحظات التاريخية الدموية
ألكسندر كيلي ينطلق من لقاء مع عالم الفيزياء الفلكية سيمون غودوين الذي ينفي وجود أي حياة ذكية أخرى في المجرّات. «نخطو خارج منظومتنا الشمسية، نحو الكون، ساعين فقط للسلام والصداقة» العبارة التي كتبها البشر على المركبة الفضائية «فوياجر» ذات يوم، هي جملة العرض. تلامس الجملة أسئلة عن موقع الإنسان في الكون، ومعنى أن نكون بشراً سواء بوجود أرضيين آخرين أو عدمه، ضمن قالب بسيط ومرح، يسائل أيضاً وجود الإنسان وماهيته في عصر الذكاء الحاد والتطور المدمر. بعد انتهاء العرض، يقدّم كيلي محاضرة مختصة هذه المرة في «الجامعة الأميركية في بيروت» (11/11 ــ س: 12:00) حول تمارين وتقنيات تأليف النصوص وإعداد العروض المسرحية، بالاستناد إلى طريقة عمل Third Angel. من بريطانيا أيضاً، يقدم أحد أهم المؤدين المعاصرين كريس ثورب عرضه «تأكيد» (14 و15/11 ــ س: 18:30) في «مانشن». موعد استثنائي مع عرض يعد استكمالاً لانشغالات ثورب بالسلوك البشري كما في The Oh Fuck Moment الذي ظهّر فيه تلك اللحظات المحرجة الفالتة من السياق الحياتي المضبوط، وفي «كنت أتمنى أن أكون وحيداً» الذي تتبع بمزاج شعري وفلسفي العلاقات الشخصية في عصر الفايسبوك، الأخبار الهائلة التي تأتي على شكل رسالة نصية مختصرة. أما «تأكيد» (إعداد وإخراج راتشيل تشافكين) الذي ألفه ويؤديه ثورب وحيداً، فيلتقط عصر النقاشات الصاخبة على هامش الأحداث السياسية الكبرى. يسقطنا ثورب في تلك الفجوة التي تفصل بين الآراء والمعتقدات ووجهات النظر، يرافقها هوس في إثبات أننا على حق. هكذا يسائل كيفية ولادة اعتقاد أو رأي معين، عبر البحث في تلك النزعة البشرية الجامحة للتأكيد. ضمن المهرجان أيضاً، يزور ثورب «كلية الفنون الجميلة» في الجامعة اللبنانية (فرن الشباك) ليقدم ورشة (15/11 ــ س: 12:00) حول إقامة عروض تشرك الجمهور والمؤدين بشكل فاعل. الأحداث السياسية الكبرى في العالم تشكل ركناً أساسياً في المهرجان. فرقة «دوزيو» الفرنسية التي تتخذ من التفكير والبحث الجماعي ركيزة لعملها المسرحي التجريبي تحضر في ثلاثة مواعيد. ضمن عملها البحثي «أطياف أوروبا» خرجت الفرقة الفرنسية بثلاثة عروض سنشاهد جزءها الثالث «فجأة... الليل» (14 و15/11 ــ س: 21:00) في «مسرح دوار الشمس» (الطيونة)، والأول «محاسن الربيع» (8 و9/11 ــ س:19:00) في «المعهد الفرنسي» (طريق الشام)، بينما تقدم محاضرة في «الجامعة اليسوعية» (11/11 ــ س: 17:00) حول العلاقة بين الفعلين السياسي والمسرحي. يبدو هذا السؤال في صلب عمل الفرقة في نوع من مواجهة لأوروبا وموقفها من الأحداث الكبرى، وتحديداً ممارساتها تجاه اللاجئين. يتطرق «محاسن الربيع» الذي أعدته ضمن فعالية «بغداد ــ عاصمة عربية للثقافة» عام 2013، إلى ميل الأوروبيين إلى تنميط غير الأوروبيين الذين يعانون اليوم من الحرب والفقر وتداعيات الثورات التي ترفض أوروبا العودة إليها مجدداً. أما الفرقة، فتتوق لمواجهة أوروبا بهذه الحقائق عبر لعبة مرايا تخلق موقفاً متخيلاً. يستعيد العرض «عطيل» شكسبير، مسقطاً مواضيعه وإشكالياته الأساسية على لقاء يجمع مخرجاً شاباً ما بعد الربيع العربي، بممثلة فرنسية تتدرب على مسرحية «عطيل». أما «فجأة الليل» فيصلنا بلحظات قريبة من أزمة اللجوء العالمية وفوبيا أوروبا الراهنة. وبدلاً من تظهير البعد التراجيدي للمأساة، يلجأ العرض إلى لعبة تبادل أدوار. ماذا لو حبسنا الأوروبيين خلف أبوابهم الموصدة في وجه القادمين الغرباء؟ لعبة فانتازية تضع الأوروبيين أمام اختبار الخسارات والحرمان المادي والنفسي وتداعي الأوهام. خارج منصة «فوكس ليبانون» التي تحتفي بالعروض الراقصة والموسيقية والمسرحية المحلية (راجع الكادر)، سيكون «مسرح المعركة» (12/11 ــ س: 21:00 ــ دوار الشمس) الموعد اللبناني الوحيد على البرنامج. تحمل هذه المشهدية العنيفة التي شاهدناها في بيروت السنة الفائتة، الكثير من هواجس وأسئلة «فرقة زقاق». رغم غياب البعدين السياسي والاجتماعي المباشرين عن العرض، يمسرح الأخير لحظات العنف القصوى التي تكاد تكون بديلاً لهوية البلاد. يستعير جنيد سري الدين، وهاشم عدنان وكريستيل خضر ولميا أبي عازار (دراماتورجيا: مايا زبيب وعبدالله الكفري) العنف الذي يتعرض له الضحايا، لمساءلة دور المتفرج ووظيفة الممثل على الخشبة.
* «مهرجان أرصفة زقاق»: عند السادسة من مساء اليوم حتى 15 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ فضاءات عدة في بيروت. www.zoukak.org