هي احتفالية الرصيف الذي وجده مؤسسو «زقاق» رافداً لفسحة من التأمل. الرصيف الذي يربط الفضاءات الخاصة والمغلقة بالمدينة، هو حاضن الفنانين الذين يضعون أطراً مغايرة لمدنهم. «هكذا يقف بعض الفن في مواجهة الجهل والراحة، جميلاً ومغتاظاً، صافياً وصداميّاً».يفتح اللقاء بمديرَي المهرجان جنيد سري الدين وعمر أبي عازار من فرقة «زقاق» المجال لكثير من التساؤلات والطروحات الفكرية والسياسية. طروحات ليست بجديدة على الفرقة التي ترى أنّ مجرد ممارسة المسرح في بلاد كبلادنا هي فعل سياسي بامتياز. من هذا المنطلق، أي فعل فني يجب أن يخضع لتساؤلات اللحظة الراهنة المتأزمة إقليمياً ودولياً.
مساحة للأعمال التجريبية غير المكتملة في إطار
فضاءات حميمية

اذا عدنا إلى أصل «أرصفة زقاق» التي أطلقت فعاليتها الأولى عام 2013، كانت الرغبة في تراكم التجربة وتطوير لغة وأدوات مسرحية جديدة هي الأساس. لذا، قررت الفرقة خلق الفرص بدل انتظارها، ودأبت منذ تأسيسها (٢٠٠٦) على استضافة فنانين لتقديم ورش عمل. يذكر جنيد جيداً كيف تمت دعوة راقصة البوتو يوميكو يوشيوكا من دون تمويل. هي حاجة فردية للمجموعة أرادوها مفتوحة على جميع الفنانين المقيمين في لبنان والأفراد غير المحترفين ذلك لأن تطوير اللغة الفنية بشكل عام، ينعكس بعلاقة ورابط مختلفين مع الجمهور. "تطوير الفرقة مرتبط أساساً بتطوير المحيط الفني والبيئة التي نعيش فيها. وإذا لم تكن هناك بنية ناضجة في السياق الذي نعيشه بين الفنانين وبين الجمهور" تبقى فسحة التطور على هذا الصعيد محدودة.
هكذا، امتدت تجربة تنظيم ورشات مغلقة و/أو مفتوحة وتقديم عروض خارجية لمدة سبع سنواتٍ كانت ضرورية لمنهجة هذا الشق من عمل «زقاق» تحت إطار تسمية «أرصفة زقاق» التي تعدّت أنشطتها تنظيم الورشات وتقديم العروض، وباتت تطال تنظيم منتديات نقاشية تحت عناوبن متعددة منها المسرح السياسي والموت (٢٠١٤)، والمسرح والتربية. كما تمت استضافة أسماء مسرحية مكرسّة عالمياً كبيتر سيليرز، ودايفيد أبل وأوليفييه وغيرهم. في سياقٍ مواز، قدمت «أرصفة زقاق» مساحة للأعمال التجريبية غير المكتملة في إطار فضاءات حميمية محفزة للنقاش. هي اذاً مساحة تشاركية بين الفنانين على الصعيدين النظري والعملي وبين الفاعلين المسرحيين المحليين، وبين الجمهور بهدف اكتشاف وتطوير ممارسات فنية متنوعة والحثّ على خلق لغات مسرحية جديدة وروابط مختلفة مع الجمهور.
هذا العام، تحولت فعالية «أرصفة زقاق»، بدعم من المعهد الفرنسي ومعهد «غوته» والمجلس البريطاني، إلى مهرجان يضم بالإضافة إلى العروض المسرحية والراقصة المحلية والدولية، معارض، ومحاضرات مختصة (master classes)، وعروضاً موسيقية، ونقاشات عامة، وورشات عمل مع فنانين وفنانات من الولايات المتحدة، وألمانيا، والمملكة المتحدة وفرنسا. أبرز الحاضرين إلى المهرجان هو المخرج الألماني توماس أوسترماير الذي أرسى في أعماله واقعية جديدة لاجئاً إلى كلاسيكيات المسرح كـ «لعبة الدمية»، و «هاملت».
بني أول لقاء مع أوسترماير على مصادفة تمت في «مهرجان أفينيون» تلتاها محادثات ونقاشات امتدت على سنتين حول المسرح والمجتمع والسياسة. بالنسبة إلى كلا الفريقين، يحتل النص مكانة جوهرية في العمل المسرحي تستبعد الـ «إستيتيك». يصعب تقديم عروض أوسترماير في لبنان لأسباب مادية وقانونية معاً، ذلكّ أنّ «نقابة الممثلين تمنع تقديم عروض من دون أجر» وفقاً لعمر أبي عازار الذي رأى أن ما يجري في لبنان حالياً بالمعنى السياسي والإجتماعي حافل بحيث يتراءى للمرء أن كل شيء يحصل هنا. «نحن على وشك عيش تغيرات ديموغرافية، وتبدلات اجتماعية، مليون ونصف لاجئ...». لذا كان مهماً لـ "زقاق" استضافة أوسترماير لأن «المجتمع المعاصر أو الحياة المعاصر هي هنا، في هذه البقعة من العالم، لا هناك حيث يقطن أوسترماير» الذي زار رام الله أكثر من مرة، ولكنه لم يزر لبنان قط، و"وجوده سياسياً في وضع أمني بيئي مماثل في لبنان يعطي دفعاً كبيراً للممثلين اللبنانيين والمقيمين في لبنان».
لا تنطبق دينامية التجاور والتحاور والنقاش حصراً على أوسترماير، فمعظم من تمت دعوتهم في المهرجان هم أفراد أو فرق مسرحية تجمعهم بـ «زقاق» نقاشات دائمة وورشات عمل، وأحياناً أعمال مشتركة سابقة... والأهم من هذا كله الإلتزام الإنساني السياسي المشترك، والبحث عن خطاب يبتعد عن السائد والمألوف والسعي لخلق أدوات فنية جديدة.