لدى دخولنا إلى فضاء «ستايشن»، كانت حنان الحاج علي تمارس تمارينها الجسدية على الأرض قبل أن تبدأ هرولتها في سياق سردي محكم. بدأت بالخرخرة والغرغرة ثم تنقلت بانسيابية في تفاصيل يومياتها البسيطة من إضاعة المفاتيح، إلى الأسباب الصحية التي تدعوها إلى الهرولة قبل أن تنطلق إلى لبّ الحكاية. حكايات ترتقها حنان الحاج علي الأم والممثلة والمواطنة، لتمهد بحثها عن «ميديا» اليوم. تلك الشخصية الأسطورية التي لطالما حلمت بأن تؤديها. كل تلك الهواجس والأفكار تتبادر إلى ذهنها وهي تمارس رياضة الـ«جوغينغ» (الهرولة) عنوان عرضها المونودرامي الذي أرادت له أن يبقى مسرحاً قيد التطوير، يستلهم روحيته من «مسرح الحكواتي»، لكنه يقدم نمطاً أدائياً مغايراً يضع النص والعمل البحثي نصب عين حنان التي كتبت النص بنفسها، وقدمت التصور العام للعرض، في حين تولى السينوغرافيا والإدارة الفنية إيريك دنيو.
لم يستبعد النصّ البعد الانتروبولوجي للحكايا في موازاة خط أسطورة «ميديا»

على بقعة مربعة بيضاء، توالت الحكايا والتفاصيل التي انطلقت من خاصية حنان المتناقضة، إلى حكايا نساء أخريات لتطال المدينة، مطلق مدينة: المرأة التي اختارت المسرح مهنة لها، المسرح الذي وجدته فضاءً مفتوحاً على الحياة، على المدينة وعلى تبدلاتها الاجتماعية. المرأة الخمسينية المحجبة التي تفجّر شهواتها على الخشبة من دون أن تفلح في الوصول إلى مبتغاها، تحاول مواساة نفسها بالـ«هرولة نحو حلمها كممثلة». من هنا يبدأ البحث: ميديا. ميديا التي قتلت أخاها عندما فتنها جازون. ثم قتلت كريوز ابنة كريون، ولم تتوان عن قتل أولادها حين خانها هذا الأخير. حنان تبحث عن ميديا في العصر الحالي. ميديا، أروع مسرحيات يوريبيدس، التي شكلت التجربة الأولى التراجيدية لبيار كورناي التي جسدها بازوليني في عمل سينمائي (١٩٦٩) ضم ماريا كالاس في دور البطولة، تتأنسن في نص حنان التي طرحت التساؤل التالي: «ما الذي يدفع امرأة إلى قتل أولادها؟».
في سياق مبنيّ على وقائع حقيقية، تستحضر حنان حادثة إيفون (٢٠٠٩)، الزوجة التي سمّمت لبناتها الثلاث قبل أن تصور فيديو لزوجها المقيم في الخليج وتقتل نفسها. صورت له فعل القتل بشكل سادي، كما صوّرت حنان سادية ميديا وهي تنثر أشلاء أولادها. لم تجد حنان إجابة شافية عن الأسباب التي أدت إلى القتل، على رغم أنه كان واضحاً أن هذا الفعل هو فعل انتقام. ثم استحضرت حكاية زهرة، المرأة الجنوبية البسيطة التي تزوجت «حمودي»، وأغرمت به وبنضاله اليساري وتزوجا، إلى أن اعتقله الإسرائيليون في أنصار واعتُقلت هي أيضاً ووضعت في الريجي. في لحظة ما، تدفعها تجربة السجن إلى التديّن ووضع الحجاب. تأثرت بالثورة الإيرانية. لم تحب جمال عبد الناصر وفضّلت عليه عبد الحليم. زهرة تمازح الله ولا تجمل مأساتها. زهرة فاقت مأساتها مأساة ميديا: فقدت أولادها الثلاثة. اثنان منهم قُتلا في جنوب لبنان، والثالث قُتل وهو يحارب في شمال سوريا. زهرة ليست حفيدة إله الشمس ولا تملك عربة سحرية. لا تملك إلا تذكر خياراتها وانكساراتها.
هنا تتحول ميديا لتصبح مقاماً ذا بعد اجتماعي يدين خيارات جماعة من الناس. في رسالة صارمة وأخيرة أرسلها ابن زهرة لوالدته، تصبح الإدانة أكثر وقعاً: «الله لا يسامحك إذا بتلبسي أسود عليي، الله لا يسامحك اذا بتردّي عحدا بيعيطلك يا إم الشهيد». هي إدانة سياسية، تشبه مواقف كثر أدانوا مشاركة «حزب الله» في الحرب في سوريا، أكانوا موالين له أم معارضين.
حفل نص حنان الحاج علي، الذي شاركها في الدراماتورجيا عبدالله الكفري، بالتمريرات السياسية التي وضعت بكل رشاقة في سياق النص الذي لم يستبعد البعد الأنتروبولوجي للحكايا واليوميات التي طرزتها حنان بموازاة خط أسطورة ميديا التي كان تغيب عن العرض وتعود إليه بروح الثبات. لعبت حنان على تداخل في الأصوات في نصها المحكم والمحبوك، فكانت في أحيانٍ كثيرة زهرة وحنان وميديا في الوقت عينه، كما تشاركت مع الجمهور طالبةً منه تلاوة أجزاء من الحكاية.
من الناحية الأدائية، بنَت حنان عرضها على نيران هادئة: استعانت بتلك البرودة التي قتلت بها ميديا أولادها. تلك المسافة التي بنَتها بينها وبين نفسها أعطت ثقلاً آخر للنص. أحسسنا أن حنان تؤدي «شخصية حنان»، التي لم تغوها الفذلكات الأدائية، وآثرت أن توصل فكرتها ونصّها بكل تقشف. لم يمنع هذا الخيار من لعب حنان على خيطان تلك المسافة، فكانت تشدها إلى حدّ إلغائها في ميديا وزهرة، وترخيها في حديثها عن نفسها، كما لو أنها أرادت أن تشاهد معنا «ميديا القرن الحادي والعشرين».

* «جوغينغ ــ مسرح قيد التطوير»: حتى 29 تشرين الأوّل (أكتوبر) ــ «ستايشن» (جسر الواطي). للاستعلام: 71/684218