يُفرِغ القزم آخر قطرات النبيذ في جوفه، بينما تقوم إحدى بائعات الهوى بمداعبته. تنهض عن ركبتيها وتتبعه إلى السرير «أَسمَع أنّه وضيعٌ، سكّير، مُنكبٌّ على كل أنواع الانحرافات». سُمعة الرجل الصغير تسبقه على ما يبدو. نصف رجل، القرد الشيطان، مسخ، عبثي، شهواني، وطبعاً القزم، ألقاب أطلقها عارفوه، ومن لم يعرفه، من شخصيات المسلسل.هو تيريون لانيستر، أخو الملكة اللدود، وخيبة الأمل الأكبر لعائلته منذ الولادة، حيث شاءت الأقدار أن تقايض حياة سيدة «كاسلي روك» بحياة من لم يُرَ فيه إلا كائناً طفيلياً وناقصاً. مقايضةٌ مجحفة، حُمِّل المولود الجديد مسؤوليتها، وسيتحمل تبعاتها التي سيكون لها تأثيرٌ على تطوّر شخصيته.
هكذا قُدِّم لنا تيريون في الحلقات الأولى من المسلسل، شخصية مسلية ربّما، وإن كانت لا تخلو من الجدية في بعض المواقف. ولكن تبقى شخصية هامشية، وخاصةً في ظل الشخصيات الأخرى، كأخته سيرسي، وزوجها الملك روبيرت براثيون (ملك الأندلز والرجال الأوائل، سيّد الممالك السبع)، أو سيد «وينترفل» نيد ستارك وزوجته كايتلن. ألقاب منمّقة وكبيرة، لا بد أنّها ستلعب دوراً حاسماً في تحديد مصير «ويستروس»، هكذا ظننّا.
تتوالى الحلقات، ونكتشف أبرز مواهب تيريون. معرفته بالبشر، وقدرته على مخاطبتهم، ومحاكاة عقولهم ورغباتهم لتطويعها لخدمته. فنراه بقليل من الخداع، والحظ، يجبر كايتلن ستارك - وهو المتهم بمحاولة قتل ولدها - على إطلاق سراحه. لاحقاً، وببضع كلمات واستعراض «بسيط» للجاه يحوّل قطاع طرق حاولوا سلبه إلى جنود في جيش أبيه. وعند وصوله مع جيشه الجديد إلى معسكر والده، يُثبت سريعاً في المجلس الحربي أنه أكثر بصيرة مِمّن يفوقونه تجربة، فأجبر أباه، الذي يحتقره، على الإقرار بكفاءته وتكليفه لينوب عنه في مركزه كـ«يد الملك» في «كينغز لاندينغ»، مركز الحكم وعاصمة المكائد والمؤامرات.
في العاصمة، يكتمل المشهد، ويتّضح لنا مدى استثنائية تلك الشخصية وتكاملها. هناك يتخلص تيريون مِمّن يعلم أنّهم تآمروا على الذين سبقوه في منصبه، ويتلاعب بأكثر رجال ويستروس دهاءً. يكتشف هواجسهم ورغباتهم، طموحاتهم وولاءاتهم، ويظهر حنكةً عسكرية، حينما يقود بنفسه الدفاع عن المدينة. يناصر حقوق المرأة، ويرعى سانسا ستارك، ويحميها من اضطهاد جوفري، في ظل غياب جمعيات حقوق المرأة «غير الناشطة» في «ويستروس». ليس بإمكان أحد أن ينكر نبوغ القزم، لا أبيه ولا أخته، ولا كل الجموع التي تحتقره.
قدّم لنا جورج مارتن، من خلال تيريون، شخصية تتحلى بالكثير من الفضائل، ومن صفات البطل التقليدية، ولكن من دون إفراط مبتذل بأي منها. فتيريون عاشق النبيذ والنساء، حينما أحب كان لافتاً إخلاصه. وتيريون المخادع البراغماتي الذي يملك موهبة أبيه في السياسة، يتصرف بشرف ونزاهة من غير أن يكون دافعه الهوس، بصورة الرجل الشريف كنيد ستارك. فالأخير يُقرع رؤوسنا بالشرف فقط، لنكتشف لاحقاً أنه قد حاد فعلاً عن أخلاقيات الفروسية عندما اضطر إلى ذلك، في حين نجد تيريون حريصاً على إخفاء الجانب النبيل من شخصيته، وخاصةً في مكان مثل «كينغز لاندينغ»، حيث تعتبر فيها صفاتٌ كالشرف والنزاهة زلّة فادحة، قد تفصل بين رأس صاحبها وجسده.
في «غايم أوف ثرونز»، على العكس من النمط السائد في قصص الفانتازيا حيث يُقسم العالم إلى معسكرين، الخير المطلق مقابل الشر المطلق. تلتقي الصفات التي قد يفترضها البعض متناقضة، فنرى الشرفاء ينكثون بالعهود، ونرى الجانب الإنساني لـ«الأشرار»... ولعلّ هذا ما أضفى على المسلسل بعض الواقعية. لذلك، ومع كل الاحترام لشخصيات المسلسل، لجون سنو وشهامته الحمقاء، ولدينيريس وتنانينها وأداء إيمليا كلارك غير المُقنِع، ومع كامل التقدير لمشاهد الإباحية والعنف، يمكننا الادعاء، ولو بقليل من المبالغة، أن تلك الميزة التي جذبت الكثيرين لمشاهدة «غايم أوف ثرونز» تتلخص في شخصية تيريون لانيستر، بكل تناقضاتها.
انحاز مارتن إلى القزم، وأكّد أنه شخصيته المفضّلة. أبدى اهتماماً خاصاً في انتقاء الممثل لأداء الدور، طالباً من منتجي المسلسل توكيل بيتر دنكليج بذلك، من دون إجراء اختبار. وللكاتب «العجوز» رؤية وفلسفة، كغيره من الروائيين، أراد إظهارها في ملحمته، فاختص تيريون بأجمل سطوره، وعكس فلسفته بأقوالٍ أجراها على لسانه.




أغنية «نصف الرجل»

«يعرف كثيرون أنّه بدونك لواجهت هذه المدينة هزيمةً محتومة. الملكُ لن يكرّمك والتاريخ لن يذكُرك، ولكن نحن لن ننسى».
بعد هزيمة ستانيس بوراثيان في معركة «بلاك ووتر» احتُفيَ بتايوين لانيستر كمخلص لمدينة الكينغزلانديغ، أمّا تيريون ــ كما توقع فاريس ــ فلم يُكرّم، وقلّة من ذكره. لم ينسوا فضله، ومن بينهم غافن دان. فالموسيقار الإيرلندي الذي يستوحي أعماله من ألعاب الفيديو والبرامج التلفزيونية، أنصف تيريون لانيستر وكرّمه بأغنية لخّص فيها مواهب الرجل الصغير ومزاياه.