تأخرت مِصر كثيراً كي تُعطي محمّد خان ورقة تُثبت مصريّته. لقد أخذ هذا المصري «الكثير» الجنسية المِصرية بعد زمن طويل من الانتظار والأسى و... المناشدات. أتت تلك «الجنسية» بعدما تجاوز فكرتها خان نفسه، وقد صار في منطقة أخرى. وقد نقل مِصر نفسها، عبر سينماه، إلى منطقة أخرى. فعل الطيّبون من أهل الثقافة جهدهم كي ينال صاحب «زوجة رجل مُهم» جنسية تُشبه تلك التي يحملونها. لعلّه أمر شديد القسوة حين يتلّقى مُبتكر سينما الألم المصرية اتصالاً هاتفياً قبل عامين من وفاته من القصر الرئاسي يُخبره بأنّه قد حصل على الجنسية المصرية. اكتفى خان بضحكة يبدو الفرح في ظاهرها، لكنّ السخرية أصلها. ضحكة كلّها سخرية من الأمر برمّته. كيف تأتي «الورقة» في نهاية العُمر؟! وهي الضحكة نفسها التي أطلقها وكأنّه يعرف جيداً حقيقة النظام الذي يتعامل معه وحالة الإهانة التي ينتهجها طريقة للنيل ممن يخالفون المسار الذي يريد لهم أن يسيروا عليه وضمّهم إلى «الحظيرة». أستعيد هنا ما قرأته في حوار أجرته قناة «الحرّة» في عام 2007 ضمن برنامج «قريب جداً» لمقدّمه اللبناني جوزف عيساوي. والمعروف عن البرنامج كما مقدّمه ذهابهما إلى المناطق الشائكة في حياة الضيوف الموزعين على مجالات الأدب والفن والسياسة. صاحب «زوجة رجل مهم» هو إشكالية كبرى بحد ذاته. بمفرده يستطيع أن يكون علامة إكس كبيرة وحمراء ساخرة ولاعنة مثل الأوطان العربية التي تحاكم بنيها على أساس فصيلة الدم والعرق وتاريخ السلالة. منحته بريطانيا جنسيتها فيما منعتها مصر عنه. «الجنسية ورقة وأنا مصري من دون ورقة»، قال محمد خان في «قريب جداً». لذلك، كان عليه أن يجدّد الإقامة سنوياً، كأي غريب أو لاجئ حتّى يكون قادراً على العيش في مصر. وللمفارقة، فإنّ نجله الموسيقي والفنان المعاصر حسن محمد خان حامل لجواز سفر مصري والجنسية المصرية على اعتبار أنّه ابن لمصرية. «تجديد الإقامة هو شعور بالإهانة»، قال محمد خان. وفوق كل هذا، كان يأتي بين كل فيلم وآخر لهذا المخرج الفريد من يقول: «يجب أن لا يُعالج محمد خان مشاكل المجتمع المصري لأنّه غريب »! كان يُقال هذا الكلام بحق مخرج بثقل وحجم ومهارة خان. مبدع مجموعة من أجمل ما أنتجته السينما المصرية في تاريخها. من وضع بصمته على السينما المصرية من جذرها وحتى قمة رأسها. مجموعة من تلك الأفلام المبتكرة في الشق التصويري، النازلة إلى الشارع والغائصة بين تفاصيل أفقر عناصره البشرية التي لا يُلتفت إليها عادة. أفلام من وزن «الحرّيف»، و«زوجة رجل مهم»، و«عودة مواطن»، و«أحلام هند وكاميليا»، و«ضربة شمس»، و«بنات وسط البلد».
والده تاجر الشاي الباكستاني، أتى إلى مصر راغباً في الحياة والعيش والتجارة، وفيها قدّم لنا محمد خان الذي لم يستقر أو لم يستطع فعل ذلك بسبب وقوعه في خانة «الفرد الملاحق دائماً». هكذا، تنقّل بين بيروت وباكستان ولندن واقترح طريقة سينمائية تعرّف كيفية تحويل «الصرصور» بطلاً.
التصق خان بأطفال الشوارع، وحوّل ظاهرتهم إلى أفلام سينمائية مبهرة معيداً إليهم الاعتبار ولو على طريقته وبكاميرته. وكان قد تحدّث عن «التوربيني» وكيف أنّه ينتمي في الأصل إلى أطفال الشوارع وكيف أنّه كان واحداً من الضحايا. قال خان إنّ طفل الشارع لا مشكلة لديه في كيفية حصوله على الأكل والشرب، فهذا سهل، لكن المشكلة تكمن في كيفية تكوين ثقافته الخاصة وتربيته الاجتماعية. أخرج «أيّام السادات» (2001) لأحمد زكي ونال ما ناله من قدح وذم وتقليب في كريات دمه الحمراء والبيضاء. تبدو سهلة هنا مهمّة البحث في زمرة الدم والهويّة، خصوصاً من مناصري ودعاة الناصرية بسبب إعلاء خان راية السادات. ما يعني أنّه كان ملاحقاً من الجميع، وأنّ كل خطوة من خطواته كانت ملاحقة دائماً بعين مترصدة ومطاردة بباحث عن زلة أو علة. لا نقول هنا: «وداعاً محمّد خان»، بل «مرحباً بك في الحياة مرّة أخرى يا أيّها المواطن الكبير».