اليوم يكون قد مضى 2600 عام على ولادة الفلسفة، اللفظة التي اشتقّت من الإغريقية وتعني «محبة الحكمة». منذ ذلك التاريخ، بدأت الفلسفة رحلة البحث الطويلة عن حقيقة الأشياء. غير أنّ تاريخ الفلسفة شهد، عبر العصور، صراعات مع أنماط التفكير الأخرى، لعلّ أبرزها، الصراع مع التفكير الديني، التفكير العلمي، والتفكير الإيديولوجي.
وهذا ما حدا بالفيلسوف العربي، أبو حامد الغزالي إلى وضع كتابه «تهافت الفلاسفة» الذي يشرح فيه فشل الفلسفة في إيجاد أجوبة لطبيعة الخالق، مشيراً إلى ضرورة اقتصار عملها على العلوم القابلة للقياس والملاحظة، كالطب، والرياضيات والفلك. بعد ذلك بزمن طويل، جاء الفيلسوف العربي أيضاً ابن رشد، ليضع كتابه «تهافت التهافت»، موضحاً ضرورة التمييز بين الخطابين، الديني النقلي، والفلسفي العقلي، وإمكانية وجود رابطة قوية بينهما. في ما بعد، اعتبر النقّاد والفلاسفة هذه الجدلية بداية الأزمة التي أعاقت نهوض الأمة العربية والإسلامية.
إذاً، تاريخ السجال بين التفكير الفلسفي، وأنماط التفكير الأخرى، هو تاريخ طويل، لا يزال مستمراً حتى اليوم، وقد ازداد حدّة مع التقدم الكبير الذي حقّقه العلم في مختلف المجالات، بخاصّة أنّ الفلسفة، في العصر الحديث، أبدت اتساعاً كبيراً، ومقدرة على استيعاب كلّ المنجزات العلمية، وراحت تستمدّ المعنى منها. من هنا، ربّما يكون الحديث الراهن عن ماهيّة الفلسفة، هو حديث في لبّ الموضوع الشائك، في محاولة الفلسفة إعادة صياغة بعض التعريفات والعلاقات الجدلية مع أنماط التفكير المختلفة. وهذا ما يفسّر موضوع الندوة التي نظّمتها شعبة الفلسفة في «كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة ـ بنمسيك» (الدار البيضاء - جامعة الحسن الثاني) في شباط (فبراير) 2014، تكريماً واحتفاءً بالباحث والمفكر والفيلسوف اللبناني ناصيف نصّار. الأخير يعتبر واحداً من بين قلّة من الفلاسفة العرب المعاصرين، بعدما انكفأت الفلسفة العربية عن الساحة الفكرية، منذ زمن طويل، لصالح أنماط التفكير الدينيّة، التي سطت على المشهد. وعليه، عمد «مركز دراسات الوحدة العربية» على جمع البحوث التي تضمنتها تلك الندوة في كتاب صدر أخيراً تحت عنوان «ناصيف نصّار: من الاستقلال الفلسفي إلى فلسفة الحضور». إضافة إلى النصوص التي قرأت تجربة نصّار الفكرية بأقلام عشرة من أعلام الباحثين العرب (أنطوان سيف، عبد الإله بلقزيز، عبد اللطيف فتح الدين، عبد المجيد الجهاد، محمد زريق، محمد سبيلا، محمد الشيخ، محمد المصباحي، محمد نور الدين أفاية، ونبيل فازيو)، تضمّن الكتاب النصّ الافتتاحي لنصّار الذي يعتبر ورقة مهمّة في محاولة إعادة شرح ماهيّة الفلسفة، ومحاولة استعادة دور هذا النمط التفكيري، المغيّب، والتأسيس من خلاله لمرحلة نهوض جديدة.

كتاب عن تجربته صدر
أخيراً عن «مركز دراسات
الوحدة العربية»

ينطلق صاحب كتاب «طريق الاستقلال الفلسفي: سبيل الفكر العربي إلى الحرية والإبداع»، في بحثه من خصوصيّة القول بماهية الفلسفة، بعدما يؤكد أنّ القول بماهيّة الدين وماهيّة العلم وماهيّة الفن، هو قول فلسفي، بينما يمتلك الوعي الفلسفي المقدرة على فهم ذاته، مستعيداً تعريف الفيلسوف العربي، اسحق الكندي، للفلسفة بكونها «علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأن غرض الفيلسوف في عمله إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق»، وبالتالي انتماء الفلسفة إلى عالم الجهد الإنتاجي المنظّم، الذي يتميّز به الإنسان، وعدم انتمائها إلى عالم الوحي، أو الإلهام، أو الخواطر، أو عالم النشاطات غير المنتجة. هذا ما يتيح للفلسفة توسيع موضوعها، تحت عنوان المعرفة، ليتحوّل إلى دراسات متخصّصة، ومتكاملة حول منطق التفكير العلمي، والديني، والإيديولوجي، والفني، والأسطوري، والطوباوي، لتدور أسئلتها، في هذا التوسّع، حول المبادئ الناظمة لكل نمط تفكير، وكيفية اشتغالها في إنتاجيته، ونوعية المعارف التي ينتجها. وإذ يستعيد نصّار نموذج الألماني كانط الذي يعتبر أحد آخر المؤثرين في الفلسفة الأوروبية الحديثة، وصاحب كتاب «نقد العقل المجرّد»، الذي أعطى صورة نموذجية عن ممارسة الفلسفة بوصفها تفكيراً عقلانياً في مبادئ المعرفة، فإنّه يرى أهميّة ذلك في تحويل كانط، ما كان صفة متفاوتة الحضور في الممارسات الفلسفية السابقة، إلى صفة جوهريّة، ليكون النقد معه، وبعده، صفة ملازمة للعقلانية الفلسفية.
ويفرد مؤلف «الذات والحضور»، الجزء الأخير من بحثه للحديث عن الفلسفة في الدفاع والمواجهة أمام العلم والدين والايديولوجيا، كون أهم الاعتراضات ضد الفلسفة تأتي من هذه الأنماط الثلاثة من التفكير، مع الإشارة إلى الموقف السلبي، إجمالاً، للثقافة الشعبية من الفلسفة، حيث تختلط الاعتبارات المختلفة، من صعوبة النصوص، وابتعادها عن المحسوس والمعيوش، وانعدام الجدوى في مواجهة ظروف الحياة، مقارنة بالبراغماتية والانتهازية. غير أنّه يعزي ذلك إلى أنّ الثقافة الشعبية تنظر إلى مسألة التفكير العقلاني في المبادئ من خلال لعبة المصالح، كما ترتسم في أذهان الجماهير، بفعل تأثير العلم والدين، أو الإيديولوجيا. ويشرح أنّ القضية المحورية، بين العلم والفلسفة، هي قضية المعرفة الصحيحة للواقع، وادّعاء العلم أنه يتحمّل، وحده، مسؤولية تفسيره تفسيراً مطابقاً. بعد ذلك، ينفي انكفاء الفلسفة أمام العلم، كون الفكر البشري لم يقتنع، حتى اليوم، بأن الحقيقة العلمية هي الحقيقة كلها، كما أنّ الإيبستمولوجيا (نظريّة المعرفة) فرع مزدهر من الفلسفة، تدرس المعرفة العلمية بكلّ جوانبها، ما يجعل العلم وحده غير كافٍ للإحاطة بمبادئ موضوعه. تتأتّى صعوبة التمييز بين الفلسفة والإيديولوجيا، من استحالة الفصل بين المستويات الثلاثة لتمظهر الإنسان، الوجود الفردي، والوجود الجماعي، ومستوى البشرية، لكن بينما تبتغي الفلسفة الكشف عن المبادئ القصوى، في وجود الفرد، ووجود الجماعة، والبشرية بأسرها، فإنّ الإيديولوجيا، إذا توسعت في مبادئ الوجود الجماعي، فإنّ ذلك يكون من أجل الخصوصية الجماعية التي تخدمها. ما يعني أنّ التفلسف في خدمة مذهب ايديولوجي معيّن شيء، والتفلسف تحقيقاً لماهية الفلسفة شيء آخر. كما يوضح نصّار أنّ الفلسفة عندما تسأل عن المعرفة ومبادئها، فإنها لا تجد في الدين جواباً مباشراً ومتكاملاً، لأن قضيّة المعرفة، بكافة أبعادها وأشكالها، ليست موضوعاً مركزياً في الدين، ما يتيح للفلسفة ممارسة النقد على الخطاب الديني، تماماً كما تمارسه على الخطاب العلمي، والإيديولوجي، وهي تجد نفسها مدعوة لردم الهوّة، المتزايدة، بين الدين، الذي يشدّ الإنسان إلى أعلى، ويجعله «على صورة الله ومثاله»، وبين العلم الذي يشدّه، مبدئياً، إلى أسفل، ويجعله «حيواناً كسائر الحيوانات»، من حيث بحثها في ماهية الإنسان، وكينونته الخاصّة، ومكوّناته الذاتية، قبل أن تتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك. الفلسفة بهذا المعنى، تتميز الفلسفة عن الدين، وأنماط التفكير الأخرى، بكونها تتحمّل أعباء التساؤل العظيم لدى الإنسان، عن ماهيته بحد ذاته، وعن محلّه في العالم، وبالتالي عن المبادئ التي تحكم العالم.