على مدى أربعة أيام بدءاً من اليوم، يكرم «نادي لكل الناس» الثنائي جان شمعون (1944) ومي المصري (1959) تحت عنوان «سينما الانسان والذاكرة»، ويعرض بعضاً من أهم محطاتهما السينمائية المشتركة أو المنفردة. الحقيقة أنّ محاولة تأريخ مسيرة جان شمعون ومي المصري والعودة إلى أعمالهما، أمرٌ أشبه برسم خارطة لشرح يظل يتمدد من فلسطين إلى لبنان. في الحصيلة، تبان أهمية مسيرة هذا الديو السينمائي، ودور نتاجهما المشترك والمنفرد في تأريخ وتوثيق الشتات الفلسطيني والحرب الأهلية اللبنانية، ومحاولة إيجاد منفذ جمالي سينمائي وإنساني من هذا التاريخ الدامي الحزين والحاضر المتنازع.
«بيروت جيل الحرب» يروي الحرب من وجهة نظر الأطراف المتناحرة ضمن جمالية السرد السينمائي الروائي

تبدأ الرحلة في عالم الوثائقي الذي احترفه الاثنان قبل أن يخوضا في النمط الروائي. نعود إلى أعمال جان شمعون الوثائقية الأولى مثل «أنشودة الأحرار» (30 دقيقة ــ 1978 ــ اليوم ــ س:18:00) الذي يتناول حركات التحرر العالمية ونضال الشعوب من أجل تغيير واقعها، ويعتمد فيه على توثيق الأحداث والربط بينها سينمائياً أكثر من اللقاءات والمقابلات. يعد هذا الفيلم تجربته الإخراجية الثانية بعد فيلم «تل الزعتر» (1976) الذي أنجزه مع المخرج الفلسطيني مصطفي أبو علي وبينو أدريانو. يعتبر الشريط وثيقة مهمة ونادرة عن مجزرة مخيم تل الزعتر أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. شهد هذا التعاون المشترك بداية مسيرة جان شمعون السينمائية واهتمامه بوضع الفلسطينيين في لبنان ومعاناتهم. موضوع سيجمعه بالمخرجة الفلسطينية مي المصري التي ستصبح زوجته لاحقاً، ويكون نتاجهما المشترك الأول «تحت الأنقاض» (١٩٨٢) الذي يتناول حصار بيروت والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. أما «زهرة القندول» (70 د ــ1985 ـــ 11/5) فهو وثائقي درامي حاز العديد من الجوائز وتدور أحداثه في الجنوب اللبناني، مقارباً دور المرأة في التصدي للاحتلال من خلال شخصية المناضلة خديجة حرز.
«بيروت جيل الحرب» يروي الحرب من وجهة نظر الأطراف المتناحرة ضمن جمالية السرد السينمائي الروائي
ثيمة عاد إليها شمعون لاحقاً في فيلمه «أرض النساء» (60 د ــ 2004 ـــ 11/5) الذي يعرض سيرة كفاح عفيفي التي اعتقلت في سجن الخيام، بعد تنفيدها عملية في جنوب لبنان سنة ١٩٨٢، وكانت أصغر معتقلة وقتها في سجن الخيام وتم تحريرها سنة 1995. تروي لنا كفاح عن اعتقالها والتعذيب الذي تعرضت له في مخيم الخيام، ورفيقاتها اللواتي اجتمعت بهن بعد خروجها كسهى بشارة. كذلك، يصور الوثائقي شخصيات نسائية فلسطينية أخرى رائدة كسميحة الخليل التي أسست «جمعية الاتحاد النسائي العربي»، و«جمعية إنعاش الأسرة»، بالإضافة إلى عملها في مضمار السياسة وترشحها إلى جانب ياسر عرفات في انتخابات الرئاسة الفلسطينية عام 1996. تطغو الحميمية والعفوية على الشريط، إلى جانب حس الطرافة الذي تتمتع به الشخصيات رغم قسوة الأحداث المتناولة. ينجح المخرج في رسم بورتريه نابض بالحياة، داخلاً في جلد الشخصيات، ومبتعداً عن تكريسها أو تحنيطها ضمن صور ثابتة. أما «أطفال جبل النار» (50 د ــ 1990 ـــ 11/5)، فيعد من أولى الأعمال الإخراجية المنفردة لمي المصري، وأول عودة لها إلى فلسطين وطنها الام. تصوّر الانتفاضة الفلسطينية الأولى، جامعة بمهارة بين توثيق زخم الأحداث الجارية وأخذ مسافة المراقب والمحلل، ضمن إيقاع سينمائي مشغول بعناية، مع رصد التغيرات التي أحدثتها الانتفاضة في نسيج المجتمع بخاصة الأطفال، وتصورهم عن حياتهم ومستقبلهم، وروح التمرد التي أحيتها الانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وضد كل مفاهيم الخضوع والرضوخ.
علاقة مي الخاصة بالاطفال، وقدرتها على الولوج إلى عالمهم ورؤية العالم من منظارهم ستتبلور أكثر في «أطفال شاتيلا» (50 د ــ 1998 ـــ اليوم) الذي تصور فيه حياة عيسى وفرح طفلين من مخيم شتيلا ويومياتهما، فيما تدع الاطفال يجرون هم المقابلات مع شخصيات من المخيم مستكشفين فلسطين من خلالها. البوتريه التي ترسمه مي للطفل عيسى مؤثر إلى درجة كبيرة. هذا الصبي الصغير بأقواله الذكية التي لا تخلو من حس مؤلم بالمرارة يتجاوز عمره، يستحيل شخصيةً روائية، فيما تلتقط المصري حياة بقية الأطفال في المخيم بتفاصيلها ولحظات الفرح المسروقة، عبر جمالية سينمائية تحاول مثلها مثل ساكني هذا المكان أن تنتصر على البؤس، وماضي مجزرة صبرا وشاتيلا الدامي الحزين. ومن «أطفال شاتيلا»، طورت المصري فكرتها لتقدم وثائقياً أشمل لا يقل جمالية عن الأول هو «أحلام المنفى» (56 د ـ 12/5) الذي يصور يوميات أطفال شاتيلا، ومن الجهة الأخرى أطفال مخيم الدهيشة في رام الله الذين يتبادلون الرسائل. يلتقون أخيراً عند السياج الشائك الذي يفصل بين الإثنين بعد تحرير الجنوب، في مشهد لا ينسى. أيضاً من الأفلام المهمة المشتركة بين جان شمعون ومي المصري «بيروت جيل الحرب» (50 د ــ 1989 ـــ 12/5) الذي يرسم بورتريه تشريحياً وحياً، لجيل الحرب في بيروت من الأطفال الذين يلعبون الحرب في الشوارع، إلى المقاتلين الذين يخوضونها فعلياً، مبيناً سوريالية كل ذلك. بالإضافة إلى أهميته التوثيقية عبر المقابلات والشهادات الحية من المقاتلين التي يجمعها، يسعى الفيلم لجمع أجزاء رواية الحرب اللبنانية المتنازعة من وجهة نظر الاطراف المتناحرة ضمن جمالية السرد السينمائي الروائي. أيضاً لا يغيب عن هذه التظاهرة «طيف المدينة» (100 د ــ 2000 ـ اليوم) فيلم شمعون الروائي الوحيد حتى الآن، الذي يصور حياة «البطل» رامي، الذي هجِّر إلى بيروت مع عائلته هرباً من القصف الإسرائيلي في الجنوب. يواكب المخرج بداية مراهقة رامي التي تتزامن مع استكشافه لمدينة بيروت، واندلاع الحرب الأهلية، وانتقاله بشكل فجائي من عالم الطفولة إلى عالم الكبار، إثر المسؤوليات التي تلقى على عاتقه. علاقة رامي مع هذه المدينة الجديدة تراوح بين الاندهاش والرعب. تبتلعه المدينة تدريجاً ولا يستطيع مغادرتها ولا الانتماء إليها فعلياً، فيظل على هامشها.

* «سينما الانسان والذاكرة»» بدءاً من السادسة من مساء اليوم حتى 12 أيار (مايو) ـــ قاعة السينما في «المركز الثقافي الروسي» (فردان) ـ للاستعلام: 03/888763 ـــ يتواكب التكريم مع عرض ملصقات من الأفلام اللبنانية من مجموعة الناشر عبودي أبو جودة