من مجموعاته «لا شيء أكثر من هذا الثلج»، و«الذين غادروا»، و«أشكو الخريف»، و«تلك المدن»، و«نصف تفاحة» و«بورتريه لرجل من معدن»، جمع الشاعر والمترجم اللبناني اسكندر حبش أعماله الشعرية ونشرها أخيراً تحت عنوان «خيط ليس للانتحار» (الروسم). نرى هنا ابتعاد الشاعر عن البحث الشكلي والهاجس الفني، لصالح رحمة الخروج من عالم لا يمكن العيش فيه، عبر هدم كل الأشكال بما فيه هدم اللغة نفسها بكل ذلك التمرد والفوضى.في نصوص حبش ذلك الاحتجاج على المفهوم الوضعي للكون، من دون الرغبة في التواصل مع الواقع، لا قبوله ولا فهمه. يلتقط الشاعر في فخ لغته الشفيفة الخاصة، والنائحة أحياناً، شذرات من حياة خفية تثقل على صدره، ما يجعل القارىء أمام بداهة تقول: ما دام لا يوجد شيء، فذلك يعني أن القصيدة في اللحظة المناسبة لظهور ألم ما، وهذا مُتحقّق في مجموعات حبش الأولى والأخيرة على السواء وفي اتساق تام.
حيال مجموعات حبش الأولى وحتى اللحظة هذه، لا نجد اجتهاداً مفتعلاً كما لو أن مساعيه الكتابية الخاصة، ومفرداته ومشاعره، وتركيب الجملة عنده سبق أن قامت مجتمعة بإدهاشنا منذ البدايات. القصيدة عنده، مندفعة ومتورطة بأجواء تعبه الإنساني الخانق، ومتوافقة مع «الحركات الداخلية» التي تعكسها الحياة في روح الشاعر. كما يمكننا القول إنّ «خيط ليس للانتحار» لا هو نقطة ذروة ولا نقطة انطلاق، بل إنّ الانسجام بائن في التدّفق الوحشي للمشاعر ومفرداتها، بثرائها الأولي، وبالعلاقات المتنوعة لقصيدة النثر والشعر الحّر. ما يُلحظُ فقط هو مغادرة حبش قصيدة النثر ذات الشكل الصارم – بمقاطع وبُنية متماثلة – التي لم تعد سوى بقايا ماض ميت.
ينبغي الاعتراف أن قصائد كالتي احتوتها الأعمال الشعرية لحبش «خيط ليس للإنتحار» أياً كان جمالها، تملك شيئاً ما غير آني، بشكل خاص وهي تفرض ــ رغم جماليتها وفوضويتها ـــ هاجس النظام والنقاء والتناغم الذي لا يتوافق بشكل جيد مع نزعة العدمية الى حد، وعدم الامتثالية، والاحتياج المفاجئ والاندفاعة نحو وصف الخراب الأكثر تمجيداً للشعر.
الكتابة بالنسبة إليه محاولة لإيجاد توازن شخصي داخلي

يخوض حبش موضوعة «الغياب»... الغياب الذي يشّكل السّر الأكثر بعثاً على الدوار، ويصّبُ في العبث ولا جدوى الأشياء، والنظام الجائر الخفي الذي يحكم عالم الشعراء.
لم يكن هدف حبش جمع ما صدر لغاية الآن من مجموعات شعرية في كتاب واحد، حتى العنوان – يقول حبش – لا يُشير الى الأعمال الكاملة كما اعتقد بعضهم. ببساطة شديدة، لم يتوقف حبش عن الكتابة. كما ستصدر له مجموعة شعرية جديدة قريباً. كل ما في الأمر ــ بشأن اختياراته الشعرية التي صدرت ــ أن صديقه الشاعر العراقي زعيم نصّار ، صاحب «دار الروّسم» الذي زاره خلال الصيف المنصرم، اقترح عليه جمع أعماله في كتاب واحد، وهذا ما كان. لهذا لا تدّعي هذه المجموعة أيّ شيء وفق حبش، بل إنّها محاولة للملمة العمر الذي تناثر شعرياً بين دفتي كتاب واحد. المهم في ذلك كله الأصداء الإيجابية التي أتت من بغداد حيث عُرض الكتاب. ثمة هناك من يقرأ حبش للمرة الأولى. يعرفونه صحافياً ومترجماً، ويرى أن يُقرأ شعرياً في فرصة كتابه هذه.
بالنسبة إلى الترجمة، يراها حبش نوعاً من الكتابة . ذلك أنه لا يستطيع كتابة الشعر كل يوم. لذا يلجأ الى قراءة الشعر و«حين أقرأ، أترجم في رأسي ما أقرأه. بمعنى أنني أفكر بالعربية، ومن دون وعي ربما أبدأ في تحويل هذه الكلمات الأجنبية الى كلمات عربية، ولاحقاً تأتي إعادة كتابة النص بالعربية».
عمل حبش في الترجمة امتّد على سنوات طويلة وليس وليد هذه السنة. على سبيل المثال، مختارات الشعر الإيطالي كما مختارات الشعر البرتغالي، بدأ بهما عام 1995 حين قطن لفترة في روما. أما سبب عدم نشرهما حينها، فهو كسلهُ التاريخي على ما يعترف هو نفسه: «أحسست أخيراً برغبة في نشر ذلك، فعدت الى أدراجي المليئة بترجمات كثيرة، أقصد ثمة أنطولوجيات ومختارات لشعراء ستصدر قريباً. قررت أن أنشر كل ما لديّ وكل ما أجده صالحاً للنشر. هل هو الخوف من شيء ما ؟ لا أعرف. ربما الخوف من ذهاب العمر وأنا أتأمل، وأنا اتكاسل».
عن الشرخ المحتمل بين كتابة الشعر وبين الصحافة والترجمة، يحاول حبش التوصيف: «كلنا يعرف سيرة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا (ترجم له حبش 4 كتب لغاية الآن، الى جانب أخرى تصدر لاحقاً) الذي اخترع له «بُدلاء» (من بديل). لم يكتب بيسوا بأسماء مستعارة كما آخرين، بل كل اسم عنده كان يمثل شاعراً مختلفاً بفضائه ومناخه. لكن كل هؤلاء يأتون من شاعر واحد اسمه بيسوا. لهذا سأعتبر أن بدلائي هم الصحافي والمترجم والشاعر والناقد. لكنني لم أكتب باسم آخر، بل كتبت كل ذلك باسمي الحقيقي. لنقل إنّني «جمع بصيغة المفرد» إن سمح لي بتحوير جملة أدونيس الشهيرة».
إن الكتابة تستطيع أن تجد الإجابات عن أيّ تساؤل. يرى حبش أن كل ما تستطيعه الكتابة مراكمة طبقات من الأسئلة فوق بعضها بعضاً. من هذه النقطة، كل الأسئلة تبدو محض شخصية ولا مجال للعام الا في جزيئيات الخاص. إزاء ذلك ، لا بد من أن يُطرح سؤال حول معنى الكتابة. وعن معناها، يُجيب حبش أنها بالنسبة إليه محاولة لإيجاد توازن شخصي داخلي. كما يعتقد أن جزءاً من هذه الفكرة لا يزال يُسيّره لكنهُ يكتب أيضاً لأنه لا يملك إلا طرح المزيد من الأسئلة على نفسه، حتى من دون انتظار جواب. بالأحرى حتى من دون إيجاد جواب لأنه بالتأكيد لا يملك أي واحد منها.






ترجمة ومختارات
صدر لاسكندر حبش هذا العام أيضاً: «دم أبيض» (دار الأمير) وهو عبارة عن ست محاورات في الشعر أجراها حبش مع محمد علي شمس الدين، و«نجهل الوجه الذي سيختتمه الموت» (دار طوى) من الشعر الإيطالي المعاصر من تقديم وترجمة حبش، ثم «ساعات الرجل المائية» لأوديسياس إيليتس، من ترجمة حبش عن «دار التكوين». وعن «طوى» أيضاً كتاب عبد الرحمن منيف «القراءة والنسيان ـ الخروج من مدن الملح» حوارات وتقديم اسكندر حبش، إلى جانب قصائد مختارة لكلود سيباستيان تحت عنوان «على ضفة الفراغ كنت أنتظر» من تقديم وترجمة واختيار حبش، وأخيراً كتاب «أجمع الذكريات كي أموت» لـ 32 شاعراً برتغالياً معاصراً من تقديم وترجمة حبش.