بعد تجواله في عدد من المهرجانات حول العالم، منها «أبو ظبي» حيث نال جائزة أفضل إخراج، طُرح فيلم «الوادي» للمخرج اللبناني غسان سلهب (1958) أمس في «سينما متروبوليس صوفيل». في الشريط الروائي الطويل الذي يتبع فيلم «الجبل» ويشكل الجزء الثاني من الثلاثية التي يحضر لها، يسرد لنا سلهب قصة رجل يفقد الذاكرة جراء حادث سير تعرض له في الوادي.
بعد نجاته وتجواله الهائم في المنطقة المعزولة حيث وقع الحادث، يلتقي بمجموعة من الأشخاص لا يقلون غرابة عنه، فيقررون اصطحابه إلى المقر السري لإقامتهم في مزرعة في البقاع. في ما بعد، يتضح ـ كي يكتمل حظ البطل السيء ـ أنهم تجار مخدرات.
اللافت في الشريط هو جمالية لغته السينمائية التي تبرز منذ البداية عبر الكاميرا التي ترافق خطوات البطل المجهول (كارلوس شاهين) الثقيلة والمتعثرة بعد نجاته من الحادث. تلتقط التفاصيل المذهلة بدقتها، كالتجعيدة الصغيرة على ظهر قميص البطل، التي تنفرد ثم تزم بحسب إيقاع تنفسه، أو حين يركب السيارة برفقة الغرباء الذين التقى بهم للتو (فادي أبي سمرا، كارول عبود، منذر بعلبكي ويمنى مروان) حيث يصور المخرج ـــ عبر لغة سينمائية استثنائية في جماليتها وإيقاع الموسيقى الذي يجسد حالة القلق المتصاعد ــ الانعكاسات على زجاج السيارة التي تمتزج فيها المشاهد المتعاقبة في الخارج مع المشهد في الداخل في بعض اللقطات أو يلعب على التناقض بين الانعكاسات المختلفة كما في المشهد الذي نرى فيه السيارة تتراجع وتتقدم كأنما في الوقت نفسه.

لغة سينمائية استثنائية في جماليتها وإيقاع الموسيقى
وإذا كان بورتريه البطل الفاقد للذاكرة يبعث على الغرابة المقلقة والطريفة في آن معاً كما حين يرسمه المخرج بتعابير وجهه التي تعبر عن الذهول التام أو البراءة كطفل ولد للتو بالتناقض مع ضخامة جسمه، فشخصيات بقية أفراد عصابة المخدرات لا تقل تعقيداً ولا العلاقات المركبة التي تجمع بعضهم بعضاً. بالرغم من أنهم خارجون فعلياً عن القانون كما نكتشف في ما بعد، إلا أنّهم يعيشون ضمن منظومة لها قوانينها الخاصة كوجوب احترام وقت الطعام المقدس، ووجود نظام أمني صارم وحده الحمار لا يلتزم به، كما نرى في أحد المشاهد الساخرة حين يبلغ الحارس الليلي (أحمد غصين) عن الحمار الضائع. أما علاقتهم بالوافد الجديد، البطل الفاقد للذاكرة، فهي مزيج من الفضول والخشية والرغبة في استكشاف هذا الآخر الذي أتى ليحطم عزلتهم. ينشغلون بتخيل هوية هذا المجهول ويتجادلون في ما بينهم بحضوره حول اختراع اسم أو مهنة مناسبة له، غير مكترثين لوجوده. يتحول تدريجاً إلى ما هو أشبه بلعبة ضخمة يتنافسون في ما بينهم على تملكها والعبث بها. أما البطل، فيبدو مشغولاً بمحاولة الهرب من قبضة هؤلاء المجانين أكثر من استرجاع ذاكرته المفقودة. أكثر مشهد يجسد تلك العلاقة الملتبسة من الافتتان الممزوج بالسادية التي تربطهم بالبطل، عندما يحاول الهرب، فيقيدونه إلى كرسي فيما يتناوب الرجال على تعذيبه والنساء على إغرائه. يصبح جسده واللهو به مستباحاً مثل ذاكرته كما في اللقطة الطريفة حين تنفرد به الرسامة الشابة بحسب الفيلم (يمنى مروان) وتبدأ بالرسم على جسده. لا يستعيد البطل ذاكرته إلا حين تندلع الحرب التي تدمر كل شيء بما فيه مدينة بيروت. يبقى هو الشاهد الوحيد كأنما على ذاكرة المدينة المفقودة. تبرز اللغة السينمائية كدعامة للسرد الروائي في حين أنّ الحوارات متفاوتة، إذ جاءت معبرة أو طريفة في بعض المقاطع أكثر من الأخرى.
أما بالنسبة إلى إيقاع الشريط، فيتسم في بعض المقاطع بالبطء المتعمد الذي يتجسد عبر الصمت الذي يسبق الحوارات أو يتخللها، أو حتى تحركات الشخصيات ضمن المشهد، والأوتوماتيكية التي يعكسها هذا الإيقاع الموحد والمقلق وسط حالة جماد تام فيما تبدو الشخصيات أشبه بالمومياء. وحده البطل الصامت غالباً يحمل نبض الحياة المفقود لدى البقية، وربما ذلك لأنه فاقد للذاكرة على عكسهم. الخيار السينمائي الذي يبدو مقصوداً من قبل المخرج، تمكن رؤيته من وجهات نظر مختلفة. من جهة، هو يعبر عن الحالة التي يود نقلها للمشاهد أو مفهوم الوقت كما تعيشه الشخصيات بثقل فراغاته. لكن الأسلوب الذي يجسد ذلك حرفياً، قد يغرق المشاهد في الحالة نفسها. ومن هنا وجه المجازفة التي يقبل المخرج بخوضها. خيار يشكل جزءاً من وحدة رؤياه السينمائية التي ــ بخصوصيتها وجمالية لغتها السينمائية ـ تشكل تجربة استثنائية في السينما اللبنانية.

* «الوادي»: «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080