هل على المترجم أن يلزم نفسه بحدود «المفردة الأولى»؟ هذا السؤال الأبدي يستعيده الشاعر والمترجم والباحث العراقي، من وحي بعض النقد الذي تناول تعريبه لأعمال ريلكه الشعريّة «المكتوبة بالفرنسية مباشرةً» (دار المدى ــــ 2008). المقالة التي خصّ بها شاكر لعيبي «الأخبار»، مساهمة في إعادة فتح النقاش حول الترجمة والنقد
شاكر لعيبي
في مقالته الهادئة المعنونة «عن جبران... مرة أخرى»، يكتب الشاعر عبده وازن في جريدة «الحياة» (بتاريخ 8-7-2008) عن الترجمة الجديدة التي قام بها الراحل سركون بولص لكتاب «النبي» الشهير. وهو يُقارن بين الترجمات الكثيرة للعمل بروح من الودّ العالي والتحليل والمحبة. روحه التحليلية تستدعي في ذهن المتابع المقالات السابقة عن الترجمة التي نشرها في الصفحة الثقافية من الجريدة التي يشتغل وينشر فيها. وواحدة منها هي مقالة أنطوان جوكي عن ترجمتنا لريلكه («الحياة»، 13/7/2008، «أهكذا تعرّب قصائد ريلكه الفرنسية؟») التي تذهب على النقيض التام من روح مقالة وازن، لجهة عدائيتها وسلاطة لسانها.
من الواضح أنّ ثمة بوناً شاسعاً بين لغة وازن ولغة جوكي، وبين الروحين والنيّتين اللتين تحرِّكان مقالتيهما. لم يتهم عبده وازن الشاعر سركون بولص بالجهل لأنه ترجم «المحبّة» إلى «الحب» مثلما اتهم جوكي مترجم ريلكه بعدم التفريق بين «السنان» و«الطرف المدبب»، وهو عائد إلى عدم تفريقه هو، وليس من هفوات المترجم. بل إنّ وازن وجد في ذلك: «تجاوزاً لمعظم الترجمات التي اعتمدت المفردة الأولى في ما تختزن من معانٍ تختلف عن معاني «الحب» وتأتلف معها في آنٍ واحد. لا يستطيع شاعر حديث جداً مثل سركون بولص أن يفهم «المحبة» إلا «حباً»، و«حباً» في أبعاده المتعددة». وهي فقرة من المديح التي لا يمكن أن تخطر على بال جوكي فقرة تماثلها، بل طرأ على باله فحسب ردح قصير النظر من قبيل: «غالباً ما تلتبس الدلالات على المتدرّبين أو المتسرّعين في الترجمة بباعث من تشابه المفردات». السبب في ذلك أنّ وازن قد قرأ بالفعل ترجمة بولص، بينما جوكي لم يقرأ ترجمة ريلكه التي ينقدها، بل سُرّبتْ إليه الملاحظات على أوراق منفصلة لم يفعل سوى كتابة مقدمة لها تدلّ على ما تدلّ عليه. وثمة أدلة كثيرة على ما نزعمه: إن ملاحظاته تعلن شخصاً اشتغل على الترجمة، كلمةً كلمةً، ويعرف خفايا نص ريلكه. أما الجُمَل التي صاغ جوكي بها نقده، فإنها تشير بدورها ــــ من دون لبس ــــ إلى أسلوب ينتمي إلى شخص آخر. إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فإننا أمام أمر جَلل في ثقافتنا العربية. على أنّ مَنْ نشر مقالة جوكي ــــ أي الشاعر عبده وازن ــــ لم يقرأ بدوره ترجمتنا على ما يبدو، لأنّ قليلاً من ضميره الشعري سيمنعه، لو أنّه قرأها، عن نشر مادة ينقصها الكثير من الإنصاف. لماذا ينشرها إذاً؟ ولماذا لا يقترح على صديقه أنطوان جوكي درساً أدبياً رفيع المستوى في النقد الأدبيّ مثل درسه الذي يقدّمه في نقد ترجمة «النبي» المذكورة؟ يسمح وازن ــــ إضافة إلى ذلك ــــ بنشر ردّ آخر على ردّنا المنشور مقطَّع الأوصال، دافعاً الناقد المتحامل إلى الإيغال في العزة بالإثم. لماذا يفعل ذلك حيث كان من الواجب عليه أن يغلق الملف مكتفياً بالمقالة والرد، و«كفى المؤمنين شر القتال»؟.
لا شأن شخصياً في ما نقول، لأنّنا لم نتشرّف بعد بالتعرّف إلى الاسمين المذكورين وجهاً لوجه، لكننا نعرف الآن موقفهما الفعليّ السلبي منّا من دون أدنى سبب. الأهمّ من ذلك كله هو المسألة العامّة التي يمكن أن تثار في هذه المناسبة، وهي تهمّ الممارسة الثقافية في بعض الأوساط التي تدّعي السموّ والطليعية والموضوعية: إننا بحاجة إلى تلك «المحبة» التي ظلّت تتلألأ في قلب جبران خليل جبران، وإنّ «الحب» الذي يؤرق سركون بولص ينقصنا كثيراً.