على سفح جبل قاسيون، يرقد جثمان عمر أميرلاي كأنه اختار مكاناً يتيح له تثبيت العدسة على منظر بانورامي لدمشق كي لا يفوته المشهد كاملاً. هل يدير حواراً الآن، مع الشيخ محيي الدين بن عربي الذي يرقد على بعد أمتار منه حول معنى التصوّف، أم أنه يضع اللمسات الأخيرة على الجزء الثاني من «الطوفان»؟ لكن هل يتيح له ضجيج الموتى، وأصوات القذائف، أن يرتّب أفكاره بهدوء، جرياً على عادته في طهي مشاريعه السجالية المؤجلة؟
كان محمد ملص قد زار قبره وسجّل لقطة من فيلمه «سلّم إلى دمشق» (2013) بما يشبه مرثية لصديقه الغائب، يعلمه بأننا «كسرنا الخوف يا عمر»، كما لو أنه يستكمل حواراً قديماً، أوقفه الموت المباغت في ليلة ماطرة من شباط (فبراير) وكان «الربيع العربي» في أول تفتّحه، قبل أن يتحوّل رماداً. ما نعرفه تماماً الآن، أنّ أميرلاي لم يغادر دمشق، استجابةً لقناعته بأن «الملعب الحقيقي للسينما هو الشارع، أو الواقع اليومي». ربما، لو لم يباغته الغياب في لحظة مفصلية، لدارت عدسة كاميرته نحو خرائط أكثر طوفاناً، مستكملاً رهاناته الأولى على سينما خشنة وغير مهادنة، تحفر مجراها بعنف، في هتك الجانب المظلم والمهمّش والمغيّب، من الحياة السورية، منذ أن حمل كاميرته صوب «سد الفرات» مطلع السبعينيات، لتوثيق «مشروع اشتراكي» يتواءم مع تطلعاته حينذاك في ولادة مجتمع سوري جديد، هو العائد للتو من باريس، وأصداء انتفاضة الطلبة (1968) التي صوّر بعض تجلياتها في الشارع الغاضب. هذه الحماسة ستخبو تدريجاً، إثر توغله في عمق الريف الفراتي. وإذا به يحقق شريطاً متفرّداً عن «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974). كان الشريط بمثابة صفعة مدويّة للخطاب الرسمي المضاد بشعاراته التزينيّة لريف مهمل تتحكم بمصيره قيم عشائرية، وعسف سلطوي جائر، وموت بطيء لبشر مخذولين ومتروكين في عراء الطين والعجاج والتلوّث. كما سيذهب إلى «صدد» في بادية حمص، ويحقق «الدجاج» (1977) في إدانة صريحة لثنائية التدجين والمرسيدس، إلى أن أغلق القوس في «الطوفان» (2003) على مآلات الشعارات البرّاقة، في سرد بصري تهكمي بلغ ذروته القصوى في تشريح زيف الخطاب المعلن، وببغائية التعليم، والحداثة الشكلانية.
ما يؤخذ على سينما أميرلاي ربما، نبرتها الثأرية في إطاحة الخصم، بعد تقييده بحبال متينة من الأفكار المسبقة. كأن شخوص أفلامه يتحرّكون فوق خشبة مسرح للدمى. يختطف من أفواههم العبارة الذهبية التي يرغب في تصديرها بما يتوافق مع الفكرة المضمرة، فيما يطيح مونتاجياً بأوهام هؤلاء الشخوص، ونياتهم الحسنة في احتضان الضيف. «ذياب الماشي» في «طوفان في بلاد البعث» أحد هؤلاء الضحايا على نحوٍ ما. كان العجوز يروي تاريخه النضالي من موقع الاعتزاز بالنبرة ذاتها التي يستضيفه فيها ميكرفون التلفزيون الرسمي وسطوة كاميرته. الكاميرا التي لطالما صوّرته نائماً في مقعده الأبدي في «البرلمان» بوصفه زعيماً لعشيرته. الأمر ذاته في المباغتة والمراوغة، يتلقاه مدير الناحية في «الحياة اليومية في قرية سورية» حين يلقي خطاباً مضحكاً، في كيفية إذكاء النعرات العشائرية للسيطرة على هؤلاء البشر القساة، وكذلك معلم المدرسة في «طوفان...»، لحظة ترديد الشعار الصباحي، ما يعده مخرجنا انتصاراً لما يضمره، وخذلاناً لضحايا الصورة في تظهيرها اللاحق.
على الضفة الأخرى، سيمجّد شخصيات مشهورة، من دون أن يتخلّى عن توقه لقطف ثمار أفكار مضادة للقمع والاستبداد وهزائم الأنظمة، فيغدو خطاب شخصيةٍ ما، لحظة احتضارها، إدانة إضافية، لما يرغب بتعزيزه، كما في أشرطته عن سعد الله ونوس، وفاتح المدرّس، ونزيه الشهبندر (بمشاركة محمد ملص، وأسامة محمد)، بينما يجد في موت صديقه ميشال سورا صورة كاملة للعنف في بيروت الحرب الأهلية. وسيبقى شريطه «الرجل ذو النعل الذهبي» محيّراً: هل تمكّن حقاً من رسم صورة حقيقية عن الراحل رفيق الحريري، أم نجا الرجل من الفخ الذي نُصبَ له؟
بالطبع، لم تجد معظم أفلامه طريقها إلى الشاشة الوطنية، إذ مُنعت رقابياً، وربما أُتلف بعضها، لمخالفتها المواصفات، فهناك فرق بين أن تصنع أشرطة ريبورتاجية دعائية، كما يفهم هؤلاء الرقباء السينما الوثائقية، وأن تحقّق سينما نقدية من العيار الثقيل. وإذا به يصبح- مرغماً- صاحب أكبر سجل للأفلام الممنوعة، في نسخة موازية لما أصاب مخرجاً مثل أندريه تاركوفسكي في الحقبة السوفياتية. هكذا ارتبط اسم أميرلاي بالسينما الوثائقية، من دون أن يتمكّن من خوض غمار السينما الروائية، بعد محاولات مجهضة في هذا المجال. ذهب سيناريو «القرامطة» إلى الأدراج، وتلاه مشروع «أسمهان»، فعاد إلى ملعبه الأول، مطرّزاً وثائقياته بدمغة روائية لا تخفى على العين، سواء في البناء الحركي للشخصيّات، أم في آليات السرد البصري، أو لجهة كثافة المعنى الدرامي. ذلك أن الصورة هنا، تخضع لأكثر من قراءة، مثلما تبطن أجوبة لا تبدو مرئية للوهلة الأولى، لفرط بساطة مقاصدها المعلنة، إلى أن يسحب البساط بمكر من تحت أقدام الرواة، تاركاً إياهم يخوضون في أرضٍ زلقة بلا ضفاف، وخالعاً أقنعة البلاغة عن هشاشة اليقين، بين حدّي التهكم والمرارة.
صاحب أكبر سجل للأفلام
الممنوعة في نسخة موازية
لما أصاب تاركوفسكي
في المقابل، لا نعلم ما هو مصير مشروعيه الأخيرين، إذ كان يستعد لإنجاز وثائقي، ربما لو أنجزه حقاً، لكان الأكثر إشكالية وإثارة للجدل في مسيرته الفكرية وتوجهاته الإيديولوجية. المشروع بعنوان «جدّي العثماني»، وهو محاولة في تفكيك هويته الشخصية المركّبة، بحكم أصوله العثمانية، وعائلته الشركسية، ونشأته العربية. هذا الخليط الإثني الملتبس، أعاده إلى سيرة جده الجنرال العثماني الذي كان حاكماً عسكرياً في أكثر من ولاية عربية. في حوار «الأخبار» معه قبل رحيله، أوضح فكرته قائلاً «آن الأوان لكسر منطق الحارة، فالانهيار العربي الذي نعيشه اليوم بكل تشرذمه وانحلاله، أتى محصلةً لانهيار الإمبراطورية العثمانية التي أفتخر بانتسابي إليها. أما دعوات التحرر من نير العثمانيين، فهي أكبر كذبة صنعها التيار القومي العربي في أروقة وزارة الخارجية البريطانية، فقد كانت الاحتجاجات العربية على الاستبداد العثماني في عهد عبد الحميد الثاني، وجمال باشا السفاح، لا على الانتماء إلى الإمبراطورية. كانت حركات احتجاجيّة لا نزعات انفصالية. فيلمي سيُضيء هذا الالتباس المقصود عن طريق سيرة عائلية وجنرال عثماني خدم الإمبراطورية إلى آخر يوم في حياته». أما مشروعه الثاني الذي أجهضه الموت، فيتعلّق بسيرة ممثلة سورية محتجبة، هي نهاد علاء الدين. «إغراء» كانت من أكثر الممثلات السوريات جرأة، وكسراً للممنوعات، حين ظهرت عارية تماماً في فيلم «الفهد» (1972) للمخرج نبيل المالح. الفكرة محاولة لإعادة الاعتبار إلى ممثلة حرّة دفعت ثمناً باهظاً من دون أن تنال تكريماً من أحد.
لو لم يعاجله الموت، على الأرجح، لطوى مشروعيه الأخيرين، واشتبك مع مخاضات الطوفان السوري وارتداداته. وربما كان سيبحث عن «أبو علي» سورياً هذه المرّة، بدلاً من «أبو علي» في فيلمه «مصائب قوم» (1981) الذي تناول الحرب الأهلية اللبنانية، راصداً حياة «متعهّد جنازات»، المهنة الرابحة في كل الحروب.




كيف ينظر أبناؤه إلى سينماه؟

كيف ينظر أبناء عمر أميرلاي من السينمائيين الشباب في سوريا إلى سينماه؟ وما تأثير هذه السينما على توجهاتهم في تحقيق أشرطة وثائقية مختلفة؟ سؤال طرحته «الأخبار» على مجموعة من هؤلاء الذين يتلمسّون خطواتهم الأولى، في سينما لطالما راكمت تصوّرات جاهزة عن الفيلم الوثائقي بوصفه مادة دعائية وفولكلورية، وأرشيفاً لتمجيد الخطاب الرسمي. يختزل فراس محمد سينما المعلّم بعبارة واحدة «التفكير خارج الصندوق، لكنها في الوقت نفسه، سينما التفكير في المكان المعتم من الواقع». أما ورد حيدر فيراها «سينما الوعي والمصداقية في قوالب جديدة تضع المشاهد في منطقة اللاتوقّع، بتحايلها على محيطها الزماني والمكاني. وفي المقابل فإن هذه السينما لا تخلو من العواطف الذاتية المؤثرة، رغم أنها سينما موجّهة». من جهته، يصف أحمد الحاج أفلام صاحب «طبق السردين» بأنها تبشيرية وصادمة، لا تخلو من نبوءة، نقلت الفيلم التسجيلي السوري إلى مصافٍ أخرى، ولطالما سحرتني طريقته في تحقيق أفلامه». ويضيف: «سنحتاج إلى سنواتٍ طويلة لنشهد طوفاناً جديداً، في السينما الوثائقية السورية لنبلغ عتبة أفلامه». بالنسبة إلى عمرو علي، فإن سينما أميرلاي «كانت تضع يدها على الجرح في مقاربة الواقع، وكل ما هو مسكوت عنه بإماطة اللثام عمّا يقضّ مضجع المجتمع، من دون أن يقع في مطب الخطابة والمباشرة، في لغة سينمائية مبهرة، وسرد يتحايل على المحظورات». أما الناقد ماهر عزّام، فلديه وجهة نظر مختلفة عمّا سبق، بقوله «إنها سينما مؤدلجة... تُنجز بناء على موقف مسبق، ولخدمة هدف جاهز بخلاف الوثيقة. هي سينما تلجأ إلى الوثائقي وعينها على مؤسسات التمويل الأوروبية على أساس أنها صورة واقعية عن ظلال المجتمعات الرازحة تحت الأنظمة الشمولية».