استعادة فرنسوا تروفو (1932 ــ 1984) واجبة من وقت إلى آخر. الذكرى الثلاثون لرحيله المبكر بسبب ورم في الدماغ، جعلت العالم كلّه يركب آلة الزمن من «السينماتيك الفرنسية» إلى «مهرجان أبو ظبي» الأخير، مروراً بعواصم أوروبيّة ونواد سينفيلية. الكل راح يلبّي واجب إعادة الاكتشاف والبحث في سينما المخرج والناقد والصحافي الفرنسي.
منذ يوم أمس حتى 6 شباط (فبراير)، نحن على موعد مع 13 فيلماً في «متروبوليس أمبير صوفيل» تحت عنوان «تروفو... بغاية الشوق» بالتعاون مع «المعهد الفرنسي في لبنان». إرث ساحر يغوص في تيمات الطفولة والعلاقات الرومنطيقية المتشابكة والأجواء البوليسية. أيضاً، سنشاهد وثائقي «اثنان من الموجة» (2010) عن العلاقة بين تروفو وجان لوك غودار كأهم اسمين في «الموجة الجديدة» (راجع المقال المقابل). تروفو كوكب سينيفيلي قائم بحد ذاته. كل شيء يرجع إلى أيام الطفولة والمراهقة. في باريس المحتلة، عانى الصغير من إهمال الأبوين بعد وفاة جدته. «لم يكونا سيئين، بل كانا عصبيين ومشغولين دائماً». لاحقاً، اكتشف أنّ أباه ليس والده البيولوجي وسط تجاهل الأم وتذمّرها الدائم. الطرد من المدارس والهروب منها صارا عادةً. الأعذار الكاذبة أمام الإدارة باتت أكثر تعقيداً وميلودراميةً: «لقد اعتقل الألمان والدي». في باكورته الطويلة «تسرّب» (الهروب من المدرسة Les 400 coups ـ 1959 ـ 31/1 ـ س:20:00)، لفّق الطفل أنطوان دوانيل (جان بيار ليو) عذراً أشدّ قسوة، هو وفاة الأم. مع صديقه روبير لاشني الذي أصبح ناقداً سينمائياً، جاب تروفو شوارع باريس وأزقتها. نام في ملاجئ المترو، وسرق مقابض الأبواب المصنوعة من الفضّة لمبادلتها بالخمر من أجل بيعه. تسلّل إلى صالات السينما مراراً. شاهد «أولاد الجنّة» (1945) لمارسيل كارني، و«غضب في الجنّة» (1941) للأميركي و. س. فانديك، و«آدم لديه أربعة أولاد» (1941) للروسي الأميركي غريغوري راتوف، و«المواطن كاين» (1941) لأورسون ويلز (الفيلم ألهم ألان رينيه، وكيوبريك وآخرين).
نعم، تأثّر تروفو بجان رينوار، وروبير بروسون، وروسلليني وسواهم، إلا أنّ هيتشكوك حكاية أخرى. لقد سحر بأفلام المعلّم الإنكليزي، بل تشبّه بعالمه المشحون بالخوف والاضطراب. أنجز عنه كتاباً حوارياً «هيتشكوك/ تروفو» صدر عام 1966 ليصبح أساساً في مكتبة أيّ سينيفيلي. هكذا، تشكّل وعي تروفو الصغير في ظلام الصالات. فُتن بالسينما الأميركية، وقرّر أن يصنع أفلاماً بجودتها. أسّس مع روبير لاشني «نادي عشاق السينما» الذي افتتح عروضه بنسخة 16 ملم من «متروبوليس» (1927) فريتز لانغ. لاقت العروض في الحيّ اللاتيني في باريس فشلاً جماهيرياً ذريعاً. لقد كان الناس يفضّلون نادي أندريه بازان في «البرودواي».
إرث ساحر يغوص في تيمات الطفولة والعلاقات المتشابكة والأجواء البوليسية

بكل ثقة، ذهب إليه تروفو طالباً تغيير مواعيد العروض لتتناسب مع برنامجه. حدث التعارف، وصار بازان عرّابه الفعلي وملاكه الحارس. أخرجه من سجن الأحداث، وأنقذه من تبعات هروبه من العسكرية، ووضعه على سكّة النقد. في مجلة «دفاتر السينما»، تعرّف تروفو إلى جان لوك غودار، وكلود شابرول، ولوي مال وغيرهم. من مشاغبات الورق، انطلقت «الموجة الجديدة» لتصنع التغيير في فرنسا والعالم. سينما اليوم تدين بفضل لا لبس فيه لهذه الشلّة. كان تروفو الناقد مقاتلاً شرساً. هاجم السينما الفرنسية الكلاسيكية بضراوة، منتقداً روتينها ونجومها وركونها إلى أساليب بائدة، وساخراً من واقعيتها النفسية الزائفة. سمّى «أعداءه» بوضوح، منهم منتجون ومخرجون أمثال إيف أليغريه، وكلود أوتان لارا الذي وصف تروفو بـ«الزنديق، وأزعر الصحافة». «مهرجان كان» نال نصيبه من الرصاص. في عام 1958، كتب تروفو مباشرة: «الشلة التي تسيطر على المهرجان عصابة ثرثارة ومكروهة في الأوساط النقدية الفرنسية. فقدت القدرة على النقد، وخسرت كل ميزة فنيّة وتجارية. إذا جاء العام المقبل من دون حلول جذريّة، أنا متأكد أنّ المهرجان الثاني عشر سينطلق بمقاعد فارغة».
نقل تروفو حدّته إلى أفلامه الأولى، متأثراً بروسلليني ومقارباً الأسلوب الوثائقي في الروائي القصير Les Mistons (1957). مع عرّاب الواقعية الإيطالية، عمل مساعداً في التحضير لثلاثة مشاريع لم ترَ النور (بينها «كارمن»). بعدها، ضرب تروفو بقوّة في «تسرّب». انتقى جان بيار ليو لأداء أنطوان دوانيل الذي أصبح أناه الأخرى. الطفل يعيش في محيط عائلي مشوّه. يفتعل المشاكل في المدرسة ويهرب مع صديقه إلى السينما. هنا، صبّ كل شيء في مصلحة تروفو. الكتابة المختلفة المعتمدة على الذاكرة. تحرير الكاميرا، وتسخير الضوء الطبيعي، والجرأة في التوليف والانتقال بين المشاهد. الـ«ترافلنغ» الأخير كان كنزاً لا يقدّر بثمن، وصولاً إلى البحر وكلمة النهاية على لقطة ثابتة. دورة «مهرجان كان» التي حذّر تروفو من خلوّ مقاعدها، شهدت الاحتفاء بولادته كأفضل مخرج. هذا منحه شهرةً واستقلاليةً وقدرة ماديّة، خصوصاً مع زواجه بابنة منتج شهير هي مادلين مورغنستيرن، فتمكّن من تأسيس شركته الخاصة. الفشل التجاري لشريطه الثاني «أطلق النار على عازف البيانو» (1960) بحضور شارل أزنافور أمام الكاميرا، جعله أكثر حذراً وتقويماً لقراراته. لم يعد بالتشدد نفسه تجاه الحلول الكلاسيكيّة، من دون أن يتخلّى عن مكتسبات الموجة الجديدة. رافق أنطوان دوانيل في سنوات مراهقته، وشهد على حبّه الأوّل في «الحب في العشرين» (1962) و«قبلات مسروقة» (1968 ــ 31/1 ـ س: 22:00)، ثم زواجه في «عش الزوجية» (1970 ــ1/2 ــ س:20:00) وانهيار الحب في «الحب يهرب» (1979 ــ 1/2 ـ س: 22:00). وَلَع تروفو بمثلثات العلاقات أخاذ بالفعل. حب امرأة لرجلين في «جول وجيم» (1962 ــ الليلة 20:30). حب الرجل لامرأتين في «فتاتان إنكليزيتان» (1971). الأول فكاهي، والثاني ميلودراما تعبّر عن نضوج فنّي. الحيرة بين العاطفة والجنس ينتصر للأخير في «البشرة الناعمة» (1964 ــ27/1 ـ س:20:30) الذي أصرّ فيه تروفو على نهاية هيتشكوكية. وضع شخصية رينوارية في مناخ هيتشكوكي من ألعابه المفضّلة. في «المترو الأخير» (1980 ـ 4/2 ـ س:20:30)، تمسك ماريون (كاترين دونوف) يدي زوجها (هاينز بينيت) وحبيبها (جيرار دوبارديو) في قرار واضح. هكذا المرأة بنظره. فاتنة، مستقلة، قويّة، ناضجة، وصاحبة قرار الحياة والموت. إنّها النعومة الشاعريّة التي يغلّف بها المعلّم سينماه ببراعة مدهشة. الفتنة البهيّة لحسناوات الأرض اللواتي مررن في حياته وأمام عدسته. حتى الدونجوان دفع الثمن في «الرجل الذي كان يحبّ النساء» (1977). لطالما لجأ تروفو إلى الاقتباس الأدبي عن روايات مفضّلة. كان بالزاك نجمه المفضّل أيام الصبا. هو قادم إلى السينما من سوق الورق أصلاً. «العروس كانت ترتدي الأسود» (1968 ــ 29/1 ــ س:20:30) و«حورية المسيسيبي» (1969 ــ 2/2 ـ س:20:30) اقتباسان عن الأميركي كورنيل وولريتش، لم يخرجا بالجودة المعتادة. في المقابل، حقق تحفةً من الخيال العلمي بعنوان «فهرنهايت 451» (28/1 ــ س:20:30) عن رواية الأميركي راي برادبري رغم الفشل التجاري. الأستاذ لم يخفِ إعجابه بالثقافة الأميركية يوماً. حتى انتقاده السابق لجون فورد سحبه لاحقاً، مقرّاً بأنّه رينوار أميركا. كان سبيلبيرغ من معجبيه المخلصين. أسند إلى تروفو دور العالم الفرنسي لاكومب في تحفته العبقرية «لقاءات قريبة من النوع الثالث» (1977). هنا، التزم تروفو الممثل تعليمات زميله، وحافظ على هدوئه المعتاد. هذه المرّة الأولى، هو أمام عدسة سواه، بعدما لعب مرتين في «الطفل المتوحش» (1970) و«الليلة الأميركية» (1973 ــ 3/2 ـ س:20:30). مهلاً، لنتوقف عند هذه الرائعة. لقد تفوّق تروفو على نفسه في هذا العمل. لم يخشَ كشف أسرار صناعة السينما. في وداع أخير، جمع شخصياته السابقة في لوكيشن تصوير فيلم داخل الفيلم. تجاوز مرحلة التحضير التي رأيناها في 8½ (1963) لفيلليني، ولم يكترث لعمليات البوست. لعب هو نفسه تحت اسم مختلف. مخرج هادئ، منعزل، من دون قصة أو ماضٍ. عليه أن يضبط كل تفصيل، ويجيب عن كل سؤال. العلاقة العاطفية ممنوعة إلا مع الشريط نفسه. الذكريات تعود إلى سرقة صور «المواطن كاين» من الصالة. في هذا الكشف، أجاب عن سؤال أرّقه طويلاً: «هل السينما أهم من الحياة؟». نعم، هي كذلك. يقولها لجان بيار ليو، فيما تؤكّد مساعدته بكل إيمان: «يمكن أن أترك رجلاً من أجل فيلم، ولكن لا يمكن أن أترك فيلماً من أجل رجل». موسيقى جورج ديليرو لا تُنسى عبر الحقب.
نعم، استعادة تروفو واجبة دائماً. نستحضره كثيراً في أفلام مارتن سكورسيزي، وجيم جارموش وروبرت ألتمان وويس أندرسون والعديد من المستقلّين حول العالم. هو الرجل الذي تتمثّل فيه عبارات إنشائية على غرار «السينمائي لا يموت». الطفل الملحمي الذي صنع من الكوكب مكاناً أكثر حميميةً وجمالاً في 21 فيلماً.



«تروفو... بغاية الشوق»: حتى 6 فبراير ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080