لم يتعب بعد ثلاثين عاماً من الإبحار عكس التيّار


زياد منى
قبل نحو ثلاثين عاماً، أطلّ المؤرخ اللبناني كمال الصليبي، العالمي الصيت في مجاله، على صفحات مجلة «دير شبيغل» الألمانية، وكانت من أكثر مجلات العالم الغربي وقاراً، ليقترح إعادة النظر في النظرة التقليدية لتاريخ بني إسرائيل (لا اليهود). وقال إنّ هؤلاء لم يقطنوا فلسطين، بل مناطق السراة وتهامة من بلاد عسير، وإنّهم لم يأتوا إليها من مصر ــــ وادي النيل، لأن «مصرايم» التوراة هي قرية مصرمة في جنوب غرب جزيرة العرب، وأورشليم ليست مدينة القدس في فلسطين، وربما ليست مدينة أصلاً، بل إقليم في عسير، يعرف حالياً باسم سراة رجال الحِجر، وشمرون التوراة ليست نابلس، بل مدينة شمران العسيرية، و«قريت أربع» ليست مدينة الخليل، بل القرى الأربع في عسير، ولخيش هي لكثة في منطقة القنفذة... إلخ.
بعض علماء التوراة كانوا جاهزين لهذه النظرية، كما يفضّل كمال الصليبي أن يسميها. إذ إن المجلة الألمانية عرضت مخطوطه على خبراء غربيين بغية التأكد من صحة المنهجية، خوفاً من أن تتورط في فضيحة. إلا أنّ العالم الغربي عموماً لم يقبل بطرحه، ليس من باب النقض العلمي، بل «من منطلق الجهل والعنصرية».
الحديث مع كمال الصليبي، يود المرء أن لا تكون له نهاية. فهو يجذبك بأسلوبه الهادئ المنطقي المتماسك، ونبرة الواثق من نفسه على نحو مطلق. لا يتردد في الإجابة عن أي سؤال، أو توضيح أي معضلة ذات علاقة بالموضوع المطروق. يطيب للمرء الحديث مع كمال الصليبي المؤرخ المتخصص بتاريخ لبنان والعالم العربي عن كل ما يعرفه، لكننا فضّلنا قصر اللقاء على موضوع جغرافيّة التوراة.
بدأنا الحوار معه من النهاية، على أن نختمه بالبدايات. «أين وصلت نظريتي؟ ما زلت على اقتناعاتي التي أطلقتها قبل نحو ثلاثين عاماً. بل إنني تعودتُ الفكرة أكثر من أي وقت مضى، مع أنه لم تجرِ مراجعة علمية لما كتبته، لذا لم أستفد علمياً مما نُشر ضدها إلى الآن. أكثر ما نشر هو تهجُّم على الشخص، وعلى فكرة خروجه على الرأي السائد». قرأنا الكثير مما نُشر عن نظريته، لكننا لم نعثر على جملة تقول: «للأسباب كذا وكذا نعترض على النظرية أو نرفضها. أو هذه النظرية غلط للأسباب الآتية: واحد، اثنان، ثلاثةالتشديد لدى المعارضين والنقاد، ونحن نستخدم المصطلَحين بتحفظ شديد، كان على الجانب الجغرافي. لم يقبل كثيرون ما قاله كمال الصليبي في مؤلفاته العديدة عن الموضوع، لكن من دون توضيح اعتراضاتهم على نحو علمي. هو يرى أن التركيز كان على الجغرافيا، لكن الأساس في عمله هو الجانب اللغوي. الجانب الجغرافي تفرّع من التحليل اللغوي للنصوص العبرانية. «أنا أرى أن تسعة أعشار المسألة ليست لها علاقة بالجغرافيا، بل في قراءة صحيحة لما يُسمّى العبرية التوراتية». لذا تراه يشدد: «حتى يتمكن الباحث من فهم دقائق تركيب جملة عبرية ما، عليه أن يكون ملماً بالعربية لأنها اللغة «الساميّة» الوحيدة التي لا تزال حيّة بقواعدها وأدبها وقواميسها. لذا وحتى يثبت المرء خطأ قراءتي اللغوية والنحوية ـــ بمعزل كامل عن الجانب الجغرافي ـــ عليه القول، مثلاً: في الجملة كذا، أنت قلت إن الكلمة كذا مبتدأ، لكن من خلال الإعراب الصحيح هي مضاف، وما أعربته أنت على أنه مضاف إليه هو نعت. هكذا يكون النقاش العلمي الرزين».
مع هذا لم يتمكن «المعارضون» من محاصرة أبحاث الصليبي، إذ أثير حولها اهتمام واسع. يكفي مثلاً أن نتجوّل على الشبكة الافتراضيّة لنكتشف حلقات نقاش متعددة حولها. عندما نشر المؤرّخ اللبناني موضوعته، فوجئ بالأعداد الغفيرة من «الخبراء العرب الذين عقّبوا عليها»، مع أنه لا أحد منهم يمتلك الأدوات العلمية لتقويمها. مع ذلك، يقول كمال الصليبي: «أنا أحترم القارئ العربي كثيراً وأحبّه. صحيح أنّ ثمة من العرب وغير العرب من هاجم النظرية من دون أن يكون لديه أي فكرة عما كتبت، إلا أن القارئ العربي لم يقبل بتلك الأحكام، والإنترنت تشهد على ذلك. الأمر في الغرب مختلف، حيث يبدو أن القارئ الغربي يرى أنه يعرف كل شيء، وأنه ليس في حاجة إلى التعلم من أحد خارج عالمه».
وبمَ تنصح البحاثة العرب الراغبين في استكمال البحث؟ «بتحصيل أدوات البحث العلمي بدلاً من التنظير. أنصحهم بقراءة قاموس وليم جيسينيوس (الباحث في اللغات السامية القديمة) وسعديا الفيومي (مترجم أسفار التوراة إلى العربيّة) ومراجع وأصول من هذا المستوى. على الباحث أن يضع نصب عينيه أنّ الاجتهاد في الموضوع لم يغلق. على الباحث تعلم اللغة العبريّة من أساسها، لا حفظ بضع مفردات، لأن البحث يتطلب أقصى درجات الانضباط والسوية العلمية».
هل يمكن تأسيس «علم توراة عربي»؟ «من الخطأ أن يفكر المرء في «علم عربي» و«علم فرنساوي»، إلخ. العلم يبقى علماً. المشاركة العربية في الأبحاث التوراتية أمر مهم للغاية. ليت هذا يحدث. المشكلة أنّ العرب المسيحيين، على عكس ما كانوا عليه في عصر النهضة، ما عادوا مهتمين بالعلم، بل بأمور أخرى. هذا على عكس ما حدث في القرن التاسع عشر، حين أسهموا في ترجمة التوراة، وهي المسماة الترجمة الأميركية. في ذلك الوقت كان بينهم مَن يعرف اللغات العبرانية والسريانية واليونانية القديمة، من أمثال العلاّمة بطرس البستاني. هو وأمثاله من العلماء العرب المسيحيين لم يُعترف بفضلهم في خصوص ترجمة الكتاب المقدس من لغاته الأصلية. وهناك قصص عديدة عن اشتباكات علمية حصلت بين بطرس البستاني والأميركي فان دايك، حيث كان الأخير يفرض تأويله التقليدي على الترجمة الصحيحة التي أنجزها الأول الذي كان ملتزماً أصول البحث العلمي ومجرداً من الأفكار المسبقة. في نهاية المطاف اضطر فان دايك إلى التوقف عن الاستعانة به، وطلب معونة شيخ دين مسلم من صيدا، هو يوسف الأسير، شرط عدم التدخل في الترجمة، وفقط من باب رأيه في صحّة اللغة، لاعتقاد فان دايك أن اللغة العربية «أبت أن تتنصّر»، وهو مفهوم خاطئ لا يرتكز على أساس».
«عندما طُرحت النظرية على مجلة «دير شبيغل» قيل: «ما فهمُ هذا الشخص بالمادة. إنه عربي مسيحي من شذّاذ الآفاق». والعنصرية يمكن أن تتجلى في تجاهل اللغة العربية ودورها في فهم العبرانية التوراتية فهماً صحيحاً. هذا ما فعله الجيل الأول من علماء التوراة، في مقدمهم جيسينيوس (1786 ــــ 1842) الذي نشر كتابه الأساس في الصرف والنحو العبراني ومعجمه التوراتي في عشرات الطبعات، وقد اعتمد في كلا المؤلفَين على اللغة العربية أساساً، إضافة إلى لغات أخرى. أين علماء التوراة في الغرب منه الآن؟
ونذكّره ببعض الانتقادات التي وجّهت إلى مشروعه. ألم يقل بعضهم: «ما دخل كمال الصليبي، المتخصص بتاريخ لبنان والعرب بالدراسات التوراتية؟»... يجيب: «هذا موقف غير صحي، وسؤال غريب عجيب، ذلك أنني أشتغل في الموضوع منذ ثلاثين عاماً. الرفض ليس قائماً على أسس علمية إطلاقاً. الجانب العنصري في هذا الموقف يرتكز على الاعتراض على أن يكون للعربي مقدرة على فهم نصوص يعدّها بعضهم تراثه الخاص، وأنا أعدّه تراثاً بشرياً وإنسانياً».
هناك تفسير آخر. فوراء تجنّب العلماء الغربيين خوض مناقشة علمية لنظرية كمال الصليبي، أسباب عدّة، ربما كان بعضها سياسياً. «ربما» يقول كمال الصليبي، «لكنني على اقتناع بأن العلماء الغربيين خافوا من الغور في هذه المسألة لأنهم لا يمتلكون المعرفة اللغوية الضرورية لمناقشة فهمي لنصّ توراتي محدد. لذا فضّل معظمهم السكوت، وتجاهل الموضوع تجاهلاً كاملاً. سبب التجاهل إذاً ليس المعرفة الأصح والأدق، بل الجهل. إنهم قادرون على فهم ما قلته وما كتبته، لكنهم غير قادرين على القيام بما قمتُ أنا به. نحن العرب الذين درسنا اللغة التوراتية، نفهمها من الداخل لأن لغتنا الأم هي العربية. كما قلت سابقاًَ، في أيام جيسينيوس كان الاعتماد على العربية مرجعاً لفهم تلك اللغة ونحوها وصرفها، لكن علماء اليوم لا يستخدمون تلك المعاجم والمراجع. الصرف والنحو المطبقان حالياً على «العبرية التوراتية» غلط تماماً. العلماء الغربيون تخلفوا بدلاً من أن يتقدموا في مستوى بحثهم وتفكيرهم. ثمة فقر دم علمي خطير في بعض جوانب معارف «علم التوراة» الحالي، وفي المعارف اللغوية على نحو خاص، لأن معظم الباحثين يجهلون قواعد اللغة التي يتعاملون معها، ولا يمتلكون الإحساس الفطري بها مثلما هو شأن أي باحث عربي. كل مطّلع على المادة يعرف أنّ الأجيال الأولى من علماء التوراة كانت تقرأ وتدرس وتحلّل وتجتهد، أما الأجيال الجديدة فهي تنظِّر فقط».
قد يرى بعضهم أن القول بضرورة إعادة النظر في فهم النصوص، يعني حتميّاً الاعتراف بأن كل ما أُنجز حتّى الآن غلط. لكن أليس القول إنّ أبعاد الموضوعة أكاديمية فقط، تبسيطاً. ألا يعني الإصرار على إعادة قراءة نصوص توراتية محددة المطالبة بإعادة قراءة الكتاب المقدس كله؟ «ممكن» يقول كمال الصليبي، ويضيف: «ربما قرأ المرء نصاً ما على أنه صلاة، فيكتشف في نهاية المطاف أنه قصة غرامية أو حكاية عن جريمة!». هناك بين المعارضين لنظريّته من يرفض الاعتراف بأنّه منذ ألفي عام يتجه في صلواته إلى المكان الخطأ. «وما علاقتي أنا في هذا الالتباس والغلط؟» يردّ كمال الصليبي.
الاعتراض مرتبط بالدفاع عن تراث عريق في قدمه، عمره ألفا عام. هذا يُعدّ مشكلة حقيقية لكثير من الناس. هذا الجانب أثار غضب كثير من العرب المسيحيين المؤمنين. لقد تحدثت مع كثير منهم، وهم أعربوا عن استيائهم الشديد من الموضوعة لأنها تعني في ظنهم أن أساس المسيحية الجغرافي غلط، وهذا أمر يصعب «ابتلاعه». يجيب كمال الصليبي: «ليس بإمكاني تغيير حقائق لإرضاء مفاهيم جغرافية مخطئة. أنا لست مسؤولاً عن هذا. فكل ما فعلته هو تسجيل اقتناعاتي العلمية».
في مقدمة كتابه عن يسوع المسيح، كتب أن إيمانه لم يتأثر بما وصل إليه من اقتناعات جديدة، حرفياً «للعقل ألف عين وللقلب عين واحدة». يعقّب كمال الصليبي بالقول: «أنا مسيحي وتربيتي مسيحية. مسألة إيماني ليست مرتبطة بصحة قصة تاريخية أو طبيعة جغرافيتها. إيماني ينطلق من صورة معنوية لواقع وجودي، أي مصدر لنوع محدّد من القيم التي أتمسّك بها وتمسّك بها من قام بتربيتي، تماماً مثل الموسيقى، فهي تعبير عن وجود لا يستعمل كلمات وصفية. عندما أذهب إلى الكنيسة وأمارس الشركة المقدسة، أو «المناولة»، فذلك يرمز إلى تمسكي بالمبدأ في الإيمان المسيحي الذي يسمّى «الفداء». أمارس هذا الطقس وأشعر براحة نفسية عميقة من دون أن يكون الأمر مرتبطاً بحدث تاريخي. الإيمان ليس أمراً تاريخياً مرتبطاً بحقبة معينة، بل بأمر أزلي. هل الحقيقة الوجودية حصلت في عام صفر أو واحد لميلاد المسيح؟ طبعاً لا».
وكيف تطمئن قراءك المؤمنين، نسأله؟ «إذا كان الإنسان يبني إيمانه على التاريخ، فيمكن أن تتعقد الأمور في وجهه. الإيمان شيء والتاريخ شيء آخر مختلف. التاريخ تسجيل لأحداث أو ما نتصوره من أحداث أو يرجّّح أنه حدث. الدين مرتبط برأي الإنسان في الحياة وما بعد الحياة وعلاقة ذلك بالوجود عموماً. لا يجوز أن يبني المرء إيمانه على التاريخ، لأن ذلك قد يسبب له مشكلات وتعقيدات حقيقية. على المرء أن يفصل بين الاثنين. من غير الممكن بناء الإيمان على التاريخ».
لكن ثمة بعد سياسي للنظرية، أرغبنا ذلك أم رفضناه. «لا علاقة لي بالبعد السياسي» يجيب كمال الصليبي. «أنا لم أكتب أي كلمة سياسية ترتبط بالنظرية، ولم أوصلها في أي وقت إلى أية استنتاجات سياسية». لكن أليس ثمة مَن يفسّر هذه النظرية سياسياً؟ «هو حر، لكن من غير المسموح لأي قارئ أن يستنبط من كتاباتي أمراً لم أنطق به. أما أن أناساً كرهوا هذه النظرية لأنها لا تناسب آراءهم السياسية فهذه مسألة مختلفة وهذه مشكلتهم لا مشكلتي. أنا لم أكتب ما كتبت لأرضي موقفاً سياسيّاً لهذه الفئة أو تلك، أو لأحفز طرف على عمل سياسي محدد. القارئ هو مَن يضفي أبعاداً سياسية على النظرية، إذا شاء على مسؤوليته، لا على مسؤولية صاحب النظرية».
أبدى بعض علماء التوراة اعتراضهم على الموضوعة انطلاقاً من وجود نقوش أشورية تتحدث عن مناحيم وشمرون ويهوذا ...إلخ. في الحقيقة، هذه النقوش مقلقة لكل باحث اتخذ موقفاً غير معادٍ من الموضوعة. يجيب كمال الصليبي: «هذه الآثار جميعها عثر عليها في بلاد بابل، لا في فلسطين. إذاً لماذا الافتراض أنّ الأماكن المشار إليها في هذه النقوش هي مواقع فلسطينية؟ لم يعثر على أي أثر من هذا النوع في فلسطين. وأنا مستعد للتراجع علناً عن نظريتي في أي وقت يثبت قطعاً أنّ مثل هذا الأثر وُجد فعلاً في فلسطين.»
لكنّ موقع الآثار غير مهم أو لنقل: إنّه غير أساسي في تقويم المحتوى. «حسناً» يقول كمال الصليبي، «لكن لدي اعتراض جديد بهذا الخصوص، ولا أستبعد أن «تقوم القيامة» عليّ بعد نشر هذا اللقاء والقول: كمال الصليبي لم يكتف بالتعدي على الدراسات التوراتية، بل صار يتعدى على اللغة الأكادية أيضاً. لا بأس، فليقولوا ما أرادوا. أنا لا أعتقد بوجود شيء اسمه لغة أكادية. مشكلة «الأكادية» ـــ وهي اللغة التي كتبها الآشوريون والبابليون في القدم ـــ أنّها لغة «ساميّة» كتبت بأحرف مسمارية موروثة عن اللغة السومرية غير «الساميّة». هذه الأحرف لا تحوي حرف الحاء أو العين، مثلاً، وهي تحوي نوعاً من التحريك على عكس الأبجديات «الساميّة» المكوّنة أساساً من أحرف ساكنة. لذلك، ليس بإمكان المرء كتابة «عرب» بالأحرف المسمارية السومرية، بل عليه كتابة: «أربا»، «أربو»، «أربي»... إلخ، أي بالطريقة التي تفرض الأحرف السومرية نطقها. هذا أنتج لغة عجيبة غريبة سُمِّيت الأكادية، وما هي في الأصل على الأرجح، في ظني، سوى اللغة الآرامية التي برزت مكانها مستقلة عن الأحرف السومرية المشوِّهة لها سابقاً، فور سقوط مملكة بابل في أيدي الفرس عام 539 ق.م.».
نعاجله بالقول: «أستاذ كمال، لقد كسبت بهذا القول مجموعة إضافية من الأعداء»، فيمضي في إيضاح كلامه: «ما أريد قوله هو ضرورة أن يُنظر إلى هذه الفكرة على أنها إمكانية. لا أقول ــــ يجيب الصليبي الآن ــــ إنّها صح أو غلط، لكن من دون أخذ هذه الإمكانية في الاعتبار، كيف يمكن تفسير اختفاء الأكادية بكامل حذافيرها من الاستعمال فور مجيء الفرس إلى المنطقة؟ منذ ذلك الحين لم تكتب كلمة واحدة بالأكادية، وصارت لغة الكتاب الآرامية، والحرف المستعمل هو الآرامي المربع الذي يعرف شعبيًا بأنه «الحرف العبري». كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة؟ لقد استخدم الفرس الآرامية لحكم كامل بلاد الشرق ومصر، لا أي لغة أخرى».
وعن كتابه الأخير الذي ستُصدر له «دار قدمس» قريباً ترجمة عربية بعنوان «حكايات بني إسرائيل: أنبياء وقضاة وملوك»، يقول كمال الصليبي: «إنه دراسة لسفرين من التوراة منسوبين إلى النبي صموئيل يحكيان عن الفترة من تاريخ بني إسرائيل التي تحولوا فيها إلى قوم يحكمهم ملوك بدلاً مما كان يسمى قضاة، وهي مرتبة تقع بين زعماء عشائر ورجال دين. اخترت هذا النص لأن فهمه صعب للغاية ولأنه معروف أن الطريق التي انتقل بها من جيل إلى آخر تم العبث فيه». وكل ذلك مثبت بعناية في الكتاب.
مجال كمال الصليبي البحثي هو تاريخ لبنان والعالم العربي، فكيف انتقل إلى ذلك المجال الجديد؟ «هذا التوسّع إلى مجال جغرافيا التوراة كان محض مصادفة. البداية كانت في صيف عام 1974، حين فكرت في أن أحفز طلابي، وأكثرهم آنذاك لم يكونوا من دارسي التاريخ بل الهندسة. من منطلق ظني أن معظمهم سوف يعملون في إحدى دول جزيرة العرب ــــ السعودية، الإمارات، الكويت، الخ ــــ ارتأيت أنّ تعليمهم تاريخ الجزيرة يفيدهم في حياتهم المهنية والاجتماعية في أمكنة عملهم ووجودهم مستقبلاً. وإذا أحبّ بعضهم يوماً استطلاع أمكنة في جزيرة العرب، ومشاهدة ما تحويه من آثار، تكون لديهم خلفية. وقتها لم يوجد كتاب أعتمده في التدريس عن تاريخ الجزيرة، فقمت أنا بتأليف كتاب عن المادة، وضعته الموسوعة البريطانية لاحقاً ضمن المؤلفات المرجعية للموضوع. دعيت وقتذاك لحضور مؤتمر دولي عن جزيرة العرب في مدينة الرياض، فحصل نقاش في هذا المؤتمر عن أصل اسم «حضرموت». وسأل عالم يمني اسمه هادون العطاس عن معنى الاسم، معترضاً على القول السائد بأنه نحتٌ من لفظتي «حاضرة الموت»، بينما المنطقة المعروفة بحضرموت هي منطقة زراعية خصبة نسبياً مقارنةً بما حولها من مناطق صحراوية. أبديت هنا اجتهادي قائلاً إن أصل الكلمة ليس «حَضْرَمَوْتْ» بل «حَضْرَمُوتْ» على وزن «عنكبوت»، كما يقول ياقوت الحموي في مؤلفه «معجم البلدان». واسم «حَضْرَمُوتْ» في نظري هو جمع مؤنث سالم على النمط الكنعاني. فإذا أردنا معرفة اشتقاق الاسم علينا معرفة معنى الكلمة «حضرمة». فلو أنّ صيغة الجمع الحالية لهذا الاسم عربية، لكتبت «حضرمات» لا «حضرموت». لكن في اللغة «الكنعانية» تكون صيغة جمع المؤنث السالم «حضرموت»، مثل «بيروت»، ما يعني أن اللغة الكنعانية كانت محكية يوماً ما في تلك المنطقة من الجزيرة العربية.
هادون العطاس شكرني على اجتهادي، وبدا مقتنعاً به. وبعد ذلك، التقيت العلاّمة السعودي عبد الله بن خميس الذي كان في السابق رئيس شرطة أو قوى أمنية في إحدى مقاطعات السعودية. أبلغني أنه ترك لي في الفندق «معجم اليمامة» الذي هو من تأليفه. عندما قلبت في المعجم، عثرت على اسم وادي اسمه «خضرمات» يقع في شمال الربع الخالي، وهو اسم عربي وبصيغة الجمع لكلمة خضرمة، أي واحة. وإلى الجنوب من رمال الربع الخالي يقع الوادي المسمى «حضرموت». وهذا هو الاسم نفسه لكنْ بصيغة كنعانية. إذاً، اسم «حضرموت» يعني «واحات». هذه كانت البداية.
هذا الموضوع أثارني وقررت وقتها أن أتفحص أسماء الأمكنة في جزيرة العرب، ومحاولة التعرف إلى أصولها اللغوية، ومن ذلك التوصل إلى معرفة اللغات التي كانت مستعملة قديماً في مختلف مناطقها. آنذاك اكتشفت أسماء «توراتية» كثيرة في منطقة محددة من جنوب غرب جزيرة العرب».
بالمناسبة، في القرن التاسع عشر، كان ثمة عالمٌ شهيرٌ اسمه فستنفلد، على ما أذكر، انطلق من شمال غرب جزيرة العرب إلى جنوبها للتحقق من جغرافيتها، وباحثاً بالتحديد عن جذور الأسماء التي ترد في الكتابات الإغريقية عن تلك البلاد. كان يبحث في أصل الاسم «البحر الأحمر» ومملكة حِميَر أيضاً الذي بدا له أنه مرتبط بمملكة أدوم التي ورد اسمها في التوراة مراراً، ويعني اسمها بالعربية «أحمر» وبالإغريقية: «إرتريا». التقى في طريقه بحاخام عربي متجهاً إلى اليمن، فعبّر له عن دهشته للعثور على أسماء «عبرانية» كثيرة في جنوب غرب جزيرة العرب، وأبدى ملاحظة أن «أرض التوراة» ربما امتدت إلى تلك المناطق أيضاً!