بيان أطلقه دانيال بارنبويم يضجّ بالتزوير التاريخي للصراع العربي الإسرائيلي وطبيعته، فإذا بالمثقّفين العرب يبصمون على هذا التزوير
نجوان درويش
يعجز المرء فعلاً عن توصيف المبادرة: ثلّة من نجوم الثقافة العربية والحائمين حولهم، توقّع على عريضة الموسيقي الإسرائيلي دانيال بارنبويم التزييفيّة التي «تطالبنا بتجاوز الماضي والتطلّع إلى المستقبل». بارنبويم الأرجنتيني المولد ــــ المستوطن مع عائلته في فلسطين لاحقاً ــــ ما انفكّ يستثمر صداقته المتأخرة مع المفكّر الفلسطيني الراحل إدوار سعيد و«مشروعهما الموسيقي المشترك» الذي يبدو اليوم من الزّلات القليلة لصاحب «الاستشراق».
البيان (لا يتعدّى مئة كلمة) يزيّف التاريخ ويستغفل الوعي ويساوي بين الجلاد وضحيته. «خلال السنوات الأربعين الماضية، أثبت التاريخ أنّ الصراع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني لا يمكن تسويته بالقوة». ويضيف البيان أنّ «الصراع» (وليس الاحتلال!) بدأ عام 1967 (وليس 1948)، وهي سرديّة إسرائيلية محدثة باعتبار احتلال 1948 لم يقع أبداً. كأنّ قرابة خمسة ملايين لاجئ فلسطيني سُرقت بلادهم هم مجرد مصطافين في إجازة!
التزييف الآخر أنّ «الصراع» «إسرائيلي/ فلسطيني» كما تروّج له السياسة الإسرائيلية وليس عربيّاً/ صهيونياً أو عربياً/ إسرائيلياً كما هو في الواقع.
«المايسترو» يريد مبادرة «تؤدي إلى أمن الإسرائيليين والفلسطينيين معاً. مبادرة جديدة تتطلّب من جميع الأطراف مسؤولية مشتركة: لضمان حقوق متساوية وكرامة للشعبين...». هذا الكلام يجيء بعد مذابح الاحتلال الأخيرة في غزة؛ مساوياً بين محتلّ ارتكب أبشع جرائم العصر وضحايا احتلاله منذ ستة عقود. هل يمرّ هذا الكلام على نجومنا العرب؟ بل هل يمرّ على مجموعة أسماء غربية معروفة بمواقف أفضل ووعي أعلى؟
من بين الموقّعين العرب: أدونيس، أمين معلوف، الطاهر بن جلون، صلاح ستيتية وثلّة من تيار الاستشراق الذاتي وموقّعي بيانات الـ«جيت سِتنغ» (jet Setting) و«مغيّري صورتنا» السوداء في محافل «الرجل الأبيض» ومجموعة فلسطينيين خواجات: رشيد الخالدي الذي يقوم بدور «الأميركي» وإيليا سليمان «الفرنسي» وميشيل خليفي «البلجيكي» و«شاعر المقاومة» السابق اللاحق سميح القاسم؛ بينهم أيضاً نجوم الرواية المصرية: جمال الغيطاني وعلاء الأسواني وإدوار الخرّاط.
ونلاحظ أنّ مجموعة كبيرة من موقّعي البيان العرب، هم من الذين نرى أسماءهم على بيانات الأصدقاء في «المنتدى الثقافي اللبناني» في باريس (يصعب نسيان بيانهم الهامّ في دعم «الشيخة مي» في صراعها مع شيوخ غير تنويريّين في إحدى وزارات بلدها البحرين)... لا يعرف أحد ما الذي يدفع هؤلاء وغيرهم ــــ بعضهم أصدقاء لا نشكّ في وعيهم ــــ إلى التوقيع على البيان التضليلي للمايسترو الإسرائيلي.
يعجز المرء فعلاً عن تخيّل موافقة هذه الأسماء العربية على هذا التزييف الذي حُشدت له أسماء نجوم الأدب والسينما والفلسفة (باولو كويلو، جان ــــ لوك غودار، ريتشارد غير، إمبرتو أيكو، بيتر بروك...)، وبعض حاملي نوبل (أورهان باموك وغونتر غراس...) وبعض «مرشّحي نوبل» أيضاً. كرنفال الموقّعين تضمّن ــــ إلى جانب الأسماء العربية التي تمارس الاستشراق بعفوية لافتة ــــ أسماء إسرائيلية وأميركيّة صهيونية، و... أشهر مخرجي إيران عباس كياروستامي!
تشكيلة عجيبة لا يجمع بين أصحابها سوى كونهم نجوماً بشكل أو بآخر، وتلك الخيوط الرفيعة لشبكات العلاقات والمصالح و/أو «النوايا الطيبة» تجاه «الصراع الفلسطيني الإسرائيلي». نفكّر للحظة أنّ موقّعي البيان ــــ وخصوصاً العرب ــــ تعرّضوا لعملية تضليل. إذ نعجز عن تخيّل كيف أقدموا على تقديم شهادة زور ترسّخ سردية الاحتلال الإسرائيلي لتاريخ «الصراع» وطبيعته!
هل يعتذر خواجات «الثقافة العربية» عن توقيع هذا البيان المزري (إن كانوا وقّعوه فعلاً)؟ أم هم سيضعون نظارات ملوّنة على عيونهم، وهم يطلّون علينا من أعالي جبل الاستشراق ــــ المقابل لجبل صهيون ــــ ولن يسمعوا سوى معزوفة المايسترو الإسرائيلي التي عجزنا نحن عن فهم «عمقها الإنساني»!