كل هذا الصخب وحنين بجرعات كبيرة

حفلة ينتظرها عشّاق هذا الموسيقي والسينمائي الذي اشتهر بطريقة تصويره الجرح «اليوغوسلافي» على الشاشة. في حفلته اللبنانية اليوم، يقدّم صاحب Underground مع فرقته «نو سموكينغ أوركسترا» أعمالاً معظمها من موسيقى أفلامه

بشير صفير
يصل مساء اليوم برنامج «مهرجانات بيت الدين 2009» إلى إحدى أبرز محطاته مع حفلة السينمائي والموسيقي الصربي اليوغوسلافي الأصل إمير كوستوريتسا. لا شك في أنّ هذه السهرة ستعيد الجمهور بالذاكرة إلى عام 2003. يومها، حلّ زميل كوستوريتسا وشريكه الفني مواطنه غوران بريغوفيتش، ضيفاً على «بيت الدين» وقدَّم أمسيةً انتظرها عشاق الموسيقى ومتتبعو الفن السابع على حدٍ سواء. أفلام صاحب Underground ترتكز في الجوهر على الموسيقى، إذ يوكلها «الدور الرئيسي» (إذا جاز التعبير) في المشاهد المحورية. والجمهور من جهته، بات ينتظر من إمير الجديد السينمائي/ الموسيقي كوحدة فنية لا تتجزأ، تمتع العين والأذن بجرعات متساوية.
ولد إمير كوستوريتسا عام 1954، وأظهر شغفاً مبكراً بالسينما. درس الإخراج في أحد معاهد براغ، عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا آنذاك. مال الفنان الشقي ـــــ بفعل انتمائه إلى منطقة مزقتها النزاعات ـــــ إلى القضايا السياسية التي عاصرها أو التي طبعت القارة الأوروبية في الماضي القريب، وتلك الاجتماعية التي تستقي مادتها من بيئة غنية بتراثها وتقاليدها. هكذا أخرج عام 1978 فيلم تخرّجه من الجامعة «غيرنيكا» الذي تناول فيه مسألة العداء للسامية، ونال عنه جائزة محلية خاصة بأفلام الطلاب. اطّلع على الأعمال السينمائية الأوروبية الجادة وغيرها من المدارس العالمية. لكنّ حبّه الكبير كان المعلم السوفياتي أندريه تاركوفسكي، فتأثر به، رغم عدم وجود قواسم مشتركة كبيرة بينهما في مقاربة الحياة/ الوجود/ الإنسان سينمائياً. الحنين كعنصر جوهري في أعمال تاركوفسكي، إلى جانب الوقت طبعاً (الذي خصّه بكتاب شهير)، وضعه المبدع السوفياتي في عالم عميق يسير ببطء وسلام. أما زميله الصربي، فغلّفه غالباً بالحيوية والصخب والألم والموسيقى الحماسية والحزينة في آنٍ.

يجمع بين الموسيقى الغجريّة والروك والبانك ومناخات أوروبا الوسطى
توالت أفلام كوستوريتسا الناجحة التي كرّسته أحد أبرز المخرجين العالميين في العصر الحديث، إذ تمحور اهتمامه حول بيئته ومحيطه. هكذا انتشرت أعماله شرقاً وغرباً، وبات أسلوبه مكرّساً وفريداً في هذا المجال، ومن أشهر أفلامه التي عُرضَت في الصالات اللبنانية التجارية أو ضمن مهرجان السينما الأوروبية السنوي، «أبي في رحلة عمل» (نال عنه السعفة الذهبية في «مهرجان كان» عام 1985)، «زمن الغجر» (عن معاناة الغجر / 1988)، «حلم أريزونا» (1993)، «تحت الأرض» (عن الحرب في يوغوسلافيا السابقة / 1995) «قط أسود قط أبيض» (عن الحياة الغجرية أيضاً / 1998)، «الحياة معجزة» (2004) وصولاً إلى «مارادونا» (2008) الوثائقي الذي تناول فيه سيرة أسطورة كرة القدم الأرجنتيني. هذه الأعمال وغيرها منحت كوستوريتسا تدريجاً مكانة في عالم السينما وصناعة الفن السابع، إذ عُيِّن عضواً في أبرز لجان التحكيم العالمية، وتولى رئاسة لجنة «مهرجان كان» عام 2005.
صحيح أن كوستوريتسا يصنع الحدث المحلي اليوم كموسيقي لا كسينمائي. لكن تجربته الإخراجية تبقى في الواجهة بالمقارنة مع اهتمامه الفني الثاني والثانوي، لذا وجب الإضاءة عليها قبل الدخول في موضوع الزيارة الرئيسي.
بداية، نشير إلى أن موسيقى أفلام إمير التي تعود إلى عام 1998 وما قبل، حملت توقيع مؤلفين عديدين. لكن أبرزهم يبقى غوران بريغوفيتش الذي تولى هذه المهمة في أشهر ثلاثة أعمال لصديقه كوستوريتسا «زمن الغجر» و«حلم أريزونا» و«تحت الأرض». لكن منذ عشر سنوات، عاد كوستوريتسا ليهتمّ بشغفه الفني الثاني، فأنعش فرقته الخاصة No Smoking Orchestra التي حققت شهرة سريعة أسهمت فيها طبعاً سمعته كسينمائي أولاً وأخيراً، مع العلم بأنّ نشاطه في هذا الاتجاه يعود إلى بداية الثمانينيات. منذ 1998، أصبح كوستوريتسا مؤلف (أو معِدّ) موسيقى أفلامه، وأبرز ما قدَّم في هذه المجال «قط أسود، قط أبيض» و«الحياة معجرزة». كذلك نشط في السنوات الأخيرة في جولات موسيقية قام بها مع فرقته، وقدَّم أعماله في حفلات حية لجمهور فنَّيْه. يضع كوستوريتسا أعمالاً موسيقية وغنائية تؤديها فرقته التي تتألف أساساً من الآلات الخاصة بالتراث الغجري مثل عائلة النحاسيات (ولا سيما كبير هذه العائلة، أي التوبا) والكمان، والأكورديون، ويتولّى هو العزف على الغيتار الكهربائي. لكنّه يعوِّل أيضاً على التراث ويستعيد منه روائعه (نصاً و/ أو موسيقى) ويعدِّها بأسلوبه الخاص الذي يجمع بين الغجري وموسيقى الروك والبانك وأنغام أوروبا الوسطى والشرقية.
في حفلته اللبنانية، سيقدم إمير كوستوريتسا و«نو سموكينغ أوركسترا» أعمالاً يستعيد معظمها من موسيقى أفلامه، ليستفز في ذاكرة الجمهور مشاهد من روائعه. تلك التي لا يمكن فصلها عن الأنغام التي رافقتها، لتصبح لاحقاً هذه الحفلة بحدِّ ذاتها مشهداً نتذكره كلما سمعنا ما ستحويه. لكنّ إطلالته من بيت الدين ستفرض حضور طيف غوران بريغوفيتش الذي لم يغادر القصر بعد.


8:30 مساء اليوم ـــــ «مهرجانات بيت الدين» ـــــ للاستعلام: 01/999666