ظلال مبهمة وأشجار تهمس وطيور تلمع في العتمة

عازفة منفردة لم تنخرط في شلّة أو تيار. فضّلت العزلة والكتابة عن المُهاجر الممزّق بين ثقافتين. صاحبة الحضور المختلف في الراهن الروائي الفرنسي، أثارت جدلاً في باريس بسبب تصريحات سياسيّة تنتقد فيها الرئيس الحالي بقسوة. لكن من هي حقّاً هذه «المرأة القويّة»؟

باريس ـــ عبد الإله الصالحي
كيف تبقى على هامش الأدب الفرنسي وتتربّع على قمته؟ سؤال يقفز إلى الأذهان عندما يستحضر المرء حالة ماري ندياي التي تُوجت مسيرتها أخيراً بـ«غونكور»، أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا. ليس هناك من سرّ. الكاتبة ـــــ وإن لم تتجاوز الثانية والأربعين ـــــ راكمت 25 عاماً من الكتابة المنتظمة. بصبر وتواضع وثقة، تكاد تكون نادرة لدى جيلها، أصدرت الرواية تلو الأخرى (لم تترجَم أي منها إلى العربية)، وفرضت نفسها صوتاً منفرداً: لغة جميلة، وسرد محكم، وعوالم خاصة تتأرجح فوق خيط رفيع يفصل بين الواقع والرؤى الحلمية.
ككل الكتّاب الكبار، بقيت ندياي عازفة منفردة. لم تنتم إلى أي مدرسة أو تيار. ولم يُعرف عنها مخالطة الحلقات والشلل، وارتياد الصالونات الأدبية، أو الظهور في استوديوات التلفزيون. وهي قطعاً تفضل الكتابة والعزلة، وتخصيص ما بقي من الوقت لعائلتها الصغيرة، زوجها ــــ الكاتب هو الآخر ــــ وأطفالها الثلاثة. نذرت نفسها للكتابة، ولم تمتهن حرفة سواها مذ نشرت باكورتها «أما عن الحياة الغنية» عام 1985 وهي لم تتجاوز الـ17. بداية مغامرتها مع الكتابة كانت موسومة بحظّ خارق: ناشرها الأول ليس سوى الراحل جيروم لاندون، صاحب «دار مينوي» العريقة وأحد أنبغ الناشرين الفرنسيين الذي ما إن قرأ مخطوطة الرواية حتى اتصل بوالدتها. وفي اليوم التالي، كان ينتظر الكاتبة المراهقة عند مدخل مدرستها، متأبّطاً عقد نشر. استمرت ندياي في نشر رواياتها لدى مينوي حتى 2007، حين انتقلت إلى «دار غاليمار». وهنا تكمن المفارقة المؤسفة: اليوم تحصد «غاليمار» جائزة «غونكور»، بفضل الجهود الدؤوبة لدار منافسة كان لها الفضل في اكتشاف صاحبة الجائزة وترسيخها.
وإذا كان الروائيون الفرنسيون، أقله أولئك الذين يحتلون الواجهة الإعلامية من أبناء جيلها، يشهرون بنزق نرجسية فارغة ويكتبون عن عوالم أنانية لا تتجاوز حدود السرة، فندياي اختارت الاتجاه المعاكس. منذ نصها الأول، ثابرت على استشراف لحظات اصطدام الفرد بالعالم، عبر العائلة التي تمثّل وحدها استعارة مكثفة للإنسانية بالمعنى الواسع. وما يتمخض عن ذلك الاصطدام من ألم واغتراب، وقلق مزمن صار السّمة الأساسية لكتابة ندياي، والتيار الباطني الذي يعبر نصوصها ويطبعها بخاتم شخصي.
فرادة ندياي تنبع أيضاً من كونها آتية من منطقة وجذور غير مألوفة في المشهد الفرنسي. ولدت وترعرعت في ضواحي باريس، ثم أقامت مع عائلتها في إقليم لاجيروند بعيداً عن المركز، وهي حاليّاً تقيم في برلين. كذلك فإنّ ندياي ـــــ وإن أصرت دائماً على كونها فرنسية وأوروبية الثقافة ـــــ هي ثمرة زواج مختلط بين أم فرنسية وأب سنغالي.
وبالفعل، روايتها المتوجة «ثلاث نساء قويّات» تجسيد مبدع لتيمة القلق اللامتناهي. بل إن ندياي أخذت على عاتقها الذهاب بعيداً في التقاطه بقوة وعنف. الرواية موزعة إلى ثلاثة فصول، وكل فصل يحكي حياة امرأة مختلفة. في الفصل الأول، هناك نورا، وهي محامية باريسية تترك صديقها وطفلتها وتغادر إلى داكار في السنغال، نزولاً عند رغبة أبيها المتسلط الذي لم تره منذ الطفولة ويريد منها أن تدافع عن أخيها المتهم بقتل حماته. الأب نفسه هجر أمها قبل عقدين، وعاد إلى السنغال مختطفاً أخاها تاركاً وراءه جرحاً عائلياً لا يندمل.

لغة جميلة وسرد محكم وعوالم خاصة تتأرجح بين الواقع والرؤى الحلمية
ثم هناك فانتا التي أغراها رودي، الفرنسي الذي تعرفت إليه في السنغال، ووعوده بالزواج والانتقال إلى فرنسا من أجل حياة أفضل. كل ما نعرفه عن فانتا يمرّ عبر سرد رودي ومونولوغاته المذنبة والمفعمة بالمرارة. إذ تظهر فانتا شخصيةً منكسرة الأحلام، تعيش حياة رتيبة في إقليم فرنسي بلا روح. أما الفصل الثالث فساردته خادي، وهي شابة أفريقية تضطر إلى الهجرة بصورة غير شرعية بعد وفاة زوجها وتفاقم حقد عائلة هذا الأخير تجاهها. وضعية خادي لا تقل مأساوية عن الشخصيات الأخرى. هي منخورة بالفقر والوحدة وضحية مغامرة هجرة لن تعود منها سالمة.
تلك إذاً حكاية الفصول الثلاثة معزولة عن بعضها. إلا أن الخيط الرابط هو القدر التراجيدي المشترك، واستحالة الاختيار. والشخصيات النسائية الثلاث تعاني جرحاً يُعفن حياتهن، ويجعلهن يتحولن تدريجاً إلى كائنات غريبات لا علاقة لهن بالوجود الحقيقي. ما يربط أيضاً الفصول الثلاثة هو العلاقة بين فرنسا وأفريقيا، والمهاجر الضائع بين ثقافتين متناقضتين. لكنّ ندياي ليست مهتمة على الإطلاق بالخطاب أو التنظيرات في صدام الحضارات، بل بالتقاط تداعياته على مستوى فردي وحميمي.
مهما استفضنا في الحديث عن هذه الرواية، فسنبقى عاجزين عن نقل المتعة الحسية التي تثيرها قراءتها. الكاتبة ماهرة في اللعب بقواعد السرد الواقعي، وتنجح في زحزحته بهدف تكثيفه وتعقيده، ما يمنح النص رونقاً محفوفاً بالغموض وقوة التلميح. ندياي دأبت أيضاً على تطعيم رواياتها بهالة من الغرائبية: أشباح تظهر وتختفي، ظلال مبهمة وأشجار تهمس وطيور تلمع في العتمة. كل هذا يجعل منها فنانة جديرة بالكتابة عن المعاناة الإنسانية... وهي تفعل بطريقة معاصرة، ومتجددة، لا مثيل لها في الراهن الروائي الفرنسي.

يوم فتحت النار على الرئيس ساركوزي



بعد مرورها الإجباري من خانة الخبطة الإعلامية التي تلت فوزها بالجائزة، عادت ماري ندياي إلى بيتها في برلين حيث تقيم منذ عامين ونصف عام. لكنّها لم تتصور، هي التي تحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الصخب الإعلامي، أنها ستتحول إلى موضوع دسم لفضيحة إعلامية. فقد بعث النائب الفرنسي المنتمي إلى حزب الغالبية الحاكمة إيريك راوولت رسالة إلى وزير الثقافة الفرنسي فرديريك ميتران ذكر فيها كيف أن ندياي صرّحت في أحد حواراتها بأنها ترى «الأجواء في فرنسا تحت حكم ساركوزي أجواء بوليسيّة كريهة»، وبأن سياسة ساركوزي ووزرائه تجاه المهاجرين «وحشية ومثيرة للغثيان، ما دفعها إلى اتخاذ قرار المغادرة والإقامة في برلين».
النائب اليميني طلب من وزير الثقافة توجيه الأمر إلى ماري ندياي بالتزام ما سمّاه «واجب التحفظ» أي عدم الحديث بالسوء عن فرنسا لكونها فائزة بأكبر جائزة أدبية فرنسية. وبالتالي، فهي ملزمة بعدم إبداء أي رأي سلبي تجاه الدولة... لم يفهم أحد ما يعنيه راوولت بواجب التحفظ، لكن الجميع أدركوا أن ما يعنيه أن الكُتاب ما إن يفوزون بـ«غونكور» حتى يتحولون إلى موظفين حكوميين مهمتهم تلميع صورة الدولة. هكذا، اندلع الجدل الذي لا يزال متواصلاً بفضل هذا النائب المعروف بولعه بإشعال الحرائق كي يتحدث عنه الإعلام عن سعادته، هو الذي لم يظفر بأي حقيبة في حكومة ساركوزي.

سياسة فرنسا تجاه المهاجرين وحشيّة ومثيرة للغثيان (م. ندياي)
ندياي المعروفة بهدوئها «انتفضت» من برلين وسخرت من ترهات النائب، وأكدت أنها تتحمل مسؤولية ما قالته وتصر عليه. وطالبت بدورها الوزير ميتران بتحمل مسؤوليته، ويحسم هذا الجدل لكونه راعي الثقافة والمثقفين، ومدافعاً عن حريتهم. لكن المفاجأة جاءت من وزير الثقافة، هو الكاتب والإعلامي المعروف الذي امتنع عن الإدلاء برأيه وزيراً، وعدّ القصة خلافاً في وجهات نظر بين نائب وكاتبة، ما أثار موجة من الاستغراب والغيظ في الأوساط الثقافية.
تردُّد الوزير في مساندة ماري ندياي، يعكس الموقع الضعيف الذي بات يشغله في الخريطة الحكومية بعد الفضيحة التي أثيرت حول كتاب اعترف بين ثناياه بأنه مارس السياحة الجنسية المثلية في تايلاندا... فتحول هو الآخر إلى ضحية محاكمة أخلاقية، لم تخفت تداعياتها حتى الآن. ندياي لم تطالب بأكثر مما حظي به السينمائي رومان بولانسكي الذي ما إن أُعلن اعتقاله في سويسرا حتى انبرى ميتران للدفاع عنه، رغم أنه متورط في قضية اغتصاب. على أي حال، الجدل الذي أثير حول ندياي لن يزيدها سوى شهرة. الجميع سجّل شجاعتها، وأثنى على العودة الرمزية للكاتب الفرنسي، من خلالها، إلى معترك السياسة ومعارك الحرية والمواقف الجريئة... خصوصاً بعد البيان الذي صدر أمس باسم المثقفين الفرنسيين تضامناً مع ندياي.