القاهرة | على الرغم من كل الضغوط التي مارسها عدد من المثقفين والكتّاب المصريين على حكومة إبراهيم محلب لإجراء تغيير وزاري في حقيبة الثقافة، إلا أن محلب كان دائم التعنّت والرفض لهذا الطلب. وبالرغم من عدم تقديم وزير الثقافة السابق عبد الواحد النبوي لأي جديد على الساحة الثقافية خلال فترة تولّيه للوزارة، بالإضافة إلى موقفه الشهير وإهانته لمديرة أحد المتاحف وتهكمه على هيئتها وشكواها التي وصلت إلى مكتب رئيس الوزراء، إلا أنه أيضاً اكتفى بترتيب جلسة مصالحة بين الوزير وبينها لتفادي أي إجراء يجدر به اتخاذه ضد الوزير الملّقب بـ «وزير قلة الذوق». وكأن المهندس إبراهيم محلب كان مصرّاً على اقتران اسم النبوي بحكومته إلى النهاية لأسباب غير واضحة، وربما من دون أسباب. ها هي حكومة محلب تصل إلى نهاية المطاف بعد قضية الفساد التي طاولت وزير الزراعة وعدداً كبيراً من المسؤولين، وبعد هروب محلب من سؤال عن قضية قصور الرئاسة وتورّطه فيها خلال المؤتمر الصحافي في تونس.
وبالفعل، كانت حقيبة الثقافة على رأس الحقائب التي طاولها التغيير في الحكومة الجديدة التي ترأسها المهندس شريف إسماعيل وزير البترول السابق، وهنا بدأت الترشيحات بأسماء مثل أحمد مجاهد الرئيس السابق لـ «الهيئة العامة للكتاب» الذي أقاله النبوي من منصبه أخيراً، وحلمي النمنم الذي قام بتسيير أعمال الهيئة خلفاً له، بالإضافة إلى عمله كرئيس لـ «دار الكتب والوثائق» في الوزارة.
وقد استقر الأمر نهائياً على اختيار النمنم لحلف اليمين الدستوري أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي كوزير للثقافة، وهنا بدأ الجميع بطرح وجهات النظر المتباينة بين التأييد والاستياء.
في الأوساط الأدبية المصرية، كانت هناك حالة من الارتياح الحذر بعد اختيار النمنم لتولّي الوزارة. الارتياح مصدره أنّه من داخل الجماعة الثقافية المصريّة المؤيدة للتغيير «ولو بشكل متحفظ أو أكثر نظاميّة».
والحذر هنا سببه أنه من داخل المنظومة التقليدية التي تتحرك في إطار نظاميّ يطرح الأفكار التقدميّة من دون الإخلال بمصالح المنظومة الحاكمة.

أبدى الصحافي السعودي
جمال خاشقجي استياءه
من هذا الاختيار

وربما كان على رأس أسباب الارتياح العام هو مجرد الإطاحة بالنبوي، ذي الميول المحافظة والأفكار الرجعيّة نوعاً ما واستبداله برجل ـ رغم كل شيء- يجاهر دائماً بضرورة علمنة الثقافة المصرية وأصدر العديد من المؤلفات عن الجماعات اليمينية الدينية وتاريخها في تفتيت المجتمع المصري. ولعل هذه النقطة التي طمأنت الجماعة الأدبية والفنية المصرية هي نفسها التي تسببت في هجوم أبواق آل سعود على اختيار الرجل كما فعلت قبلاً عند اختيار جابر عصفور صاحب نفس الميول والأفكار ليشغل هذا المنصب.
فقد أبدى الكاتب السعودي جمال خاشقجي استياءه من اختيار حلمي النمنم لشغل منصب وزير الثقافة المصريّة، معللاً ذلك بتكرار الأخير الهجوم على الفكر الوهابي الذي اتهمه هو ومروّجوه بالتسبب في تدمير الثقافة والفكر والفن العربي وانتشار التيارات التكفيرية والتحريض على العنف وممارسته، ما تسبب في تفتيت الأوطان وإضعافها.
لم يتجاهل النمنم هذا التصريح وأجرى مداخلة هاتفية مع الإعلامي وائل الإبراشي ليعلن استنكاره تدخل خاشقجي في شأن مصري كتشكيل الوزارة، معلناً رأيه في حرية المملكة لاختيار المذهب الذي تريد أن تحكم به شعبها، مضيفاً أنّه لم يتدخل في فرض المملكة على مواطنيها هذا الفكر وتلك الميول، وموضحاً بأنه يرفض تصدير هذا الفكر إلى مصر وأنه لن يتوقف يوماً عن محاربته وإعلان رفضه له! وطالب بأن يحترم الآخرين حق المصريين في رفض هذا الفكر كما احترموا حقهم في تطبيقه لديهم.
وبالطبع بعدما أعلنت المملكة موقفها بتلك الطريقة، فقد بدأت بعض التيارات السياسية الموالية لهذا الفكر داخل مصر في إظهار مواقفها بين الرفض والتجاهل لهذا الاختيار، واتهام الوزير بالكُفر والتشكيك في أهدافه، قاطعين كل الطرق على الحركة الأدبية والثقافية المصرية لتقويم الوزير وتقييمه مهنياً في الشؤون الإدارية للوزارة.
النمنم صاحب المؤلفات البحثية حول الجماعات الدينية كان قد وضع على عاتقه منذ عقود البحث في تاريخ تلك التنظيمات ودورها في خلخلة الروابط المجتمعية المصرية والعربية، وتصدير المملكة السعودية لتلك الأفكار وتمويلها الذي وصل أحياناً إلى تسليحها، بالإضافة إلى الدور القطري في بناء التنظيمات الرجعية بدءاً من أصحاب الفكر المعادي للحداثة والتقدم، وصولاً إلى حاملي السلاح والتنظير للقتل بدوافع طائفية. ومن تلك المؤلفات «حسن البنا الذي لا يعرفه أحد»، و»الأزهر... الشيخ والمشيخَة»، و»الحسبة وحريّة التعبير»، و»سيّد قطب وثورة يوليو» و»سيّد قطب... سيرة وتحوّلات».
ومن هنا يجدر الرجوع إلى التساؤل القديم عن الهدف من تلك التغييرات المتعاقبة في هذا المنصب، من صابر عرب الوزير البعيد عن المناطق الشائكة الذي يتجاهل الخوض في الجدل الفكري بين التنوير والرجعية، ثم جابر عصفور الذي أعلن بوضوح رفضه التام لوجود أي وصاية لأي مؤسسة دينية والرقابية على الأعمال الفنية، مروراً بردّة عبد الواحد النبوي الذي كان يعلن نواياه لوضع أي عمل في إطار «أخلاقي»، من دون أن يقوم بتعريف معنى الأخلاق هنا، وصولاً إلى النمنم الباحث والكاتب الذي هاجم الفكر الوهابي واتهم المملكة بتصديره بشكل مباشر وحاد ولم يتغيّر قوله حتى بعد توليه الوزارة. والتساؤل هنا: هل هذا بالفعل هو سبب اختياره، أم أن الاختيار يعود إلى كونه من داخل المنظومة الإدارية ليبقى الوضع كما هو عليه «إدارياً» حتى ولو تغيّر المضمون والمحتوى والتوجّه؟