ضمن بحث ضخم ونادر، يشرّح الباحث العراقي جذور الحراك السياسي الشيعي في بلاد الرافدين. في «العمامة والأفندي» (دار الجمل)، يقدّم عالم الاجتماع محاولة لفهم العلاقة بين المقدّس والدنيوي في حركات الاحتجاج الدينية في العراق بمقارنة مع الثورة الإسلاميّة في إيران
نوال العلي
هي محض مصادفة أن نحكي عن كتاب فالح عبد الجبّار «العمامة والأفندي» (دار الجمل ـــــ تعريب أمجد حسين) في الذكرى السابعة لسقوط بغداد التي تصادف اليوم. هنا، ينجز عالم الاجتماع العراقي بحثاً ضخماً هو واحد من الأعمال النادرة التي تناولت جذور الإسلام الشيعي و«سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني» وتجاوزت النموذج الإيراني، مولية جلّ تركيزها للحالة الشيعية العراقية المعقدة. رغم أن الحراك النضالي الشيعي في العراق سبق الثورة الإيرانية، بحسب الباحث، إلا أن الاهتمام بجذوره وسياقه الاجتماعي لم يلق العناية التي حظي بها شيعة إيران.
وقد يعود ذلك إلى أسباب كثيرة، لن تُستثنى منها صعوبة إجراء أبحاث ميدانية قبل سقوط بغداد وحتى بعدها، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالعراقيين الذين كانوا «يلطمون الصدور في حي الفقراء غرب بغداد (مدينة الصدر الآن) يوم سقوط تمثال صدام حسين»، والذين كانوا بذلك يقدمون «عرضاً رمزياً للولاء للإمام وتعبيراً عن الاحتجاج وبياناً جسدياً يحمل ضيم الماضي». كان هذا الاحتفال مكتنزاً بالرموز وخاوياً من اللغة السياسية. في جمهورية الصمت هذه، يحتاج المرء إلى أن يتعلم النطق. الحشود التي تجمّعت لم تكن قادرة على أن تنطق شعاراً سياسياً واحداً، «لهذا، غدت الرموز الثقافية الخرساء وسيلةً لإظهار الهوية».
يمكننا تصوّر الجهد الذي تكبّده صاحب «الديموقراطية المستحيلة» خلال سبع سنوات (بين 1991 و1998) للإحاطة بالبنى الاجتماعية للشيعة منذ تكوّن الدولة العراقية الحديثة. هم لم يؤلّفوا تركيبة واحدة واضحة ومتماسكة، بل كانوا منقسمين إلى جماعات متعددة، ولم يعبّروا عن هويتهم بوصفهم الطائفي، بل كان انتماؤهم الفعلي عشائرياً محضاً.
وإن كان الشيعة منذ العشرينيات منقسمين إلى مسارين متعارضين بين دعاة الوطنية العراقية ودعاة الطائفية المحلية، غير أن الطبقات الاجتماعية الشيعية لم تتطور إبّان الحكم الملكي. حتى المتشرّبون بالنزعات الطائفية منهم كانوا ينخرطون في أي سياسة دستورية تقرّ بوجود الدولة الوطنية العراقية. كان الموقف المشترك بين الاثنين هو الإجماع على عراق واحد. حتى حين اتخذت مجموعات شيعية متفرقة مواقف المعارضة، كان محرّكها دوماً قضايا على رأسها الغبن في التمثيل السياسي والتظلمات الاقتصادية، من تأميم الأوقاف الشيعية ومصادرة أملاك زعمائها إضافة إلى ما يسمّيه الباحث «الانتهاك الثقافي» مع بزوغ العلمانية ودعاة الحداثة الفكرية.
أمّا عن مبررات النشوء الفعلي للحركة الإسلامية الشيعية الحديثة في عتبة النجف سنة 1958، فيعزوها عبد الجبار، رئيس «معهد دراسات عراقية» في بيروت، إلى التحوّلات التي مثّلت ثورة تموز (يوليو) 58 مفتاحاً لها. من بين هذه التحوّلات أفول الطبقة الاجتماعية القديمة، بما فيها طبقة رجال الدين، وانتقال السلطة إلى الطبقات الوسطى الحديثة بعدما ألغيت ملكية الشيوخ للأراضي، وأقرّ قانون جديد للأحوال الشخصية، وانتشرت الماركسية على نحو شعبي كبير.
كل هذه التغيّرات السريعة أحدثت صدمة حقيقية لعلماء النجف. من هنا، نشأت جذور «حزب الدعوة الإسلامية» وراحت تخوض معركة مع الماركسية. وبدءاً من هذه البذرة التي تمثلت في مفهوم أصولي مناهض للعلمانية، تحوّل مسار الحركة الإسلامية الشيعية إلى الاحتجاج على التمييز نتيجة لممارسات حكم الأخوين عارف العسكري، قبل أن تتحوّل إلى الراديكالية في ظل نظام «البعث».
ويشير عبد الجبار إلى أن انقسام القطاعات الناشطة في طبقة رجال الدين بين إصلاحيين وتقليديين، والانقسام وفق خطوط القرابة والمدينة والإثنية أدّيا إلى «تعميق الانقسامات الفقهية والإيديولوجية والسياسية بين كربلاء والنجف والكاظمية وقم، أو بين العناصر والأسر الفارسية والعربية».

الغبن السياسي والاقتصادي كان محرّكاً لكلّ معارضة شيعيّة

هذه الطبيعة المتشظّية للمرجعية في الإسلام الشيعي في العراق زادت في ظل العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق أواخر التسعينيات وأدت إلى تقسيم النفوذ تقسيماً إقطاعياً وتسييس الهوية المذهبية. ويرى عبد الجبار، الذي عمل أستاذاً في مدرسة السياسة وعلم الاجتماع في «كلية بيركبيك» في جامعة لندن، أن هذه «التعددية ضمن طبقة رجال الدين، المتشظية أبداً، من شأنها أن تبقى المعيار السائد في عراق ما بعد الحرب».
«العمامة والأفندي» مرجع يصفه صاحبه بأنّه «محاولة لفهم العلاقة بين المقدّس والدنيوي في مناشئ حركات الاحتجاج الدينية في العراق بمقارنة مضمرة مع إيران». هاتان المفردتان تلخّصان التاريخ الذي مرّ به الرأس العربي، من العمامة التي كانت تعبّر عن الهوية والطائفة والدين، وصولاً إلى الطربوش وميل الناس إلى تذويب هوياتهم الطائفية في لباس لا يعبّر عن عرق ولا دين. وربما يجدر الآن أن يكتب كتاب «العمامة والأفندي والعمامة مرة أخرى» أمام الميل إلى التعبير بتطرّف عن الهوية بعد أفول النظام العالمي المبني على اقتصاد السوق المنظّم كما بشّر به آدم سميث، وبعد نظريّة صموئيل هنتينغتون «صراع الحضارات» التي استبدلت القوميات بجزر معزولة بجدار الدين. أمرٌ يقتضي زحفاً عسكرياً في كل مرة تكون ذرائع مثل تحقيق الديموقراطية أو الثورة حفلاً تنكرياً للوصول إلى الثروة.