روايته الأخيرة بالعربيّة عن «دار الآداب»
لنتصوّر لحظة أن أحداث ١١ أيلول لم تقع. البرجان التوأمان في مكانهما، ولا جنود أميركيين يقاتلون في العراق... لكنّ حرباً أهليّة شرسة مزّقت الولايات المتحدة، على أثر فوز بوش في الانتخابات الرئاسيّة عام ألفين. إلى أين يأخدنا هذه المرّة، صاحب «الثلاثية النيويوركيّة» الذي دخل القدس من جهة الاحتلال؟

أحمد الزعتري
في البداية، يشوّشنا الإهداء الذي يفتتح فيه بول أوستر روايته «رجل في الظلام»: «إلى الكاتب الإسرائيلي دايفد غروسمان وعائلته». ويضيف أوستر أنّ موت يوري، ابن غروسمان، في الاعتداء الإسرائيلي على لبنان صيف 2006 ألهمه كتابة الرواية: «لقد كافح دافيد من أجل السلام طوال عمره (...) ذهب مع مثقفين إلى أولمرت يتوسّلون إليه إنهاء المعارك. وبعد 72 ساعة، قتل ابنه». غروسمان الذي قال في ذكرى اغتيال رابين العام الماضي «لقد أهدرنا (معجزة) دولة إسرائيل». يخطر ببالك أن تصبّ جام غضبك على غروسمان وأوستر معاً، لكن ما العمل؟ الأدب هو الأدب في نهاية الأمر...
رواية بول أوستر الجديدة، صدرت بالعربيّة عن «دار الآداب» (ترجمة أحمد م. أحمد ــــ حُذف الإهداء في النسخة العربية)، في وقت يستضيف «مهرجان الكتّاب العالميّ الثاني» في القدس المحتلّة (راجع البرواز) كاتبنا المحبوب. أوستر سيقدّم اليوم محاضرة «ثلاثية القدس» مع صديقه غروسمان، في رؤية مجازيّة مستوحاة عن روايته الشهيرة «ثلاثيّة نيويورك» (1987) التي اعتبرت أيقونة أعماله. القدس؟ ماذا يعرف عنها أوستر حقاً؟
تجد شخصياته خلاصها في السرد... كلّ قصة تفضي إلى أخرى، كما الدمى الروسيّة
في «رجل في الظلام» يعود الكاتب إلى أجواء «في بلاد الأشياء الأخيرة» (1987 ــــ صدرت عن «دار الآداب» عام 1993 بترجمة شارل شهوان). تدور عوالم الرواية في بُعد «فوق ــــ واقعيّ»، إذ تحدث الحرب في مخيّلة شخصيّة الرواية. ليست هذه فكرة فريدة من نوعها، فالفيلسوف الفرنسيّ جان بودريار كتب مقالته «حرب الخليج لم تقع»، واضعاً نظريته الشهيرة بأن الحرب جرت في بُعد «فوق ــــ واقعيّ»، وأنها مجرّد صور على التلفزيون. وقد اقتبس عنوانه عن مسرحيّة «حرب طروادة لم تقع» للفرنسيّ جان جيرودو (1935) عن المفاوضات التي فشلت على أبواب حصن طروادة، مناقشاً فرضيات نجاحها الذي لم يحصل. بول أوستر (1947) يدخل هذه اللعبة أيضاً في «رجل في الظلام». الروائيّ النيويوركيّ يقترح أن هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 لم تقع؛ البرجان في مكانهما، ولا جنود أميركيين يقاتلون في العراق. لكن ما حدث هو سيناريو آخر. بعد قرار المحكمة الأميركيّة العليا عام 2000 بإعلان جورج بوش رئيساً بدلاً من آل غور، تنشب حرب أهليّة في الولايات المتحدة التي قسمت إلى «الولايات المستقلة» بقيادة الموالين لآل غور، و«الولايات الفيدراليّة» بقيادة جورج بوش.
كل ذلك يجري في مخيلة أوغست بريل، ناقد أدبي متقاعد في السبعين، تعرّض لحادث سير ويصارع الأرق والعجز في منزل ابنته ميريام. أفراد هذا المنزل هم ضحايا حروبهم الشخصيّة: ميريام وحيدة بعدما طلقها زوجها، وحفيدته كاتيا تحاول أن تتعافى من مقتل حبيبها تايتس ذبحاً في العراق. أوغست نفسه يعاني تبعات وفاة زوجته. وكخلفية للسرد، ثمة من يعتقد أن المَخرج يكمن في حياة موازية، لذا، وبمازوشيّة شخصيات أوستر المعتادة، يخترع أوغست شخصية أوين بريل، شاب في التاسعة والعشرين يصحو يوماً، ليجد نفسه جنديّاً في هذه الحرب الأهلية، ومهمّته الوحيدة قتل الكاتب الذي تجري الحرب في رأسه، وهو قابع في الظلام. لا يريد أوغست لشخصيته المتخيّلة أكثر ممّا أراد لنفسه. ما إن يخترع العجوز أوين بريل في الغرفة المظلمة، حتى يضعه في حفرة «هذا ما يبدو بداية موفقة، طريقة واعدة كي تطلق الأشياء. أن تضع رجلاً نائماً في حفرة، ثم ترى ما يحدث له حين يستيقظ ويحاول أن يزحف خارجها».
وفي هذا العالم الموازي الذي قتل فيه 13 مليون أميركيّ في الحرب، تبدأ قصة بريل وتنتهي ببشاعة وبسرعة، من دون أن يعني انتهاء مهمّته شيئاً، على غير عادة روايات أوستر التي يتقاطع فيها العالمان أو الشخصيات. في «كتاب الأوهام» (2002)، يكرّس دايفد زيمر وقته للكتابة عن الكوميديّ هيكتور مان، لتتقاطع الشخصيتان في مرحلة معينة. وفي «ليلة التنبؤ» (2003)، يخترع سيدني أور شخصيةً ليشتبك معها خلال الرواية.
تجد شخصيات أوستر خلاصها في رواية القصص؛ قصة تقود إلى أخرى كالدمى الروسيّة. إنها عوالم متخيلة ضد عالمنا، أو اختراع حياة موازية غير تلك التي تنمو وتذبل في العتمة.
كاتيا التي تنسلّ إلى فراش جدّها في أواخر الرواية، تجبر أوغست على رواية قصته مع جدتها وخيانته لها. الاثنان ينجوان بمشاهدة الأفلام الكلاسيكيّة ومناقشتها: كاتيا تمحو مشهد ذبح عشيقها على التلفزيون، وأوغست يبحث عن الحميميّة التي توفرها له صوفا أمام تلفزيون: «إنها الصحبة التي يعتدّ بها، ميثاق التآمر، إنها الـ fuck you يا تضامن الملعونين».
لكن لندع القراءة جانباً. إذ يخبر أوستر الصحافيّة عارفة أكبر، من جريدة الـ«إندبندنت» البريطانيّة، أنه توقف عن قراءة مراجعات كتبه لأنها «تضني روحه الهشّة».
أبطال روايات أوستر في العادة، النيويوركيون تحديداً، مثله تماماً هو النيويوركيّ الذي يذهب لتناول صحن شوربة في مطعم صغير قريب من منزله في بروكلين، يحبّ البيسبول، ولديه صديق بريطانيّ من أصول هنديّة: سلمان رشدي. علاقته بقرّائه تشبه أحياناً رواياته. في أحد الأيام، يجد صاحب «ثلاثيّة نيويورك» بوسترات موزعة حول منزله، نشرها طالب طب تركيّ بعدما وضع خريطة للأماكن في روايات أوستر. لم يطلب تورغيلدي هذا شيئاً، على العكس، ترك له علبة سيجار في مكتبة صغيرة، ليصبحا صديقي مراسلة. وما زالت صداقتهما تلك مستمرّة إلى الآن.