بيار أبي صعبفي مثل هذه الأيّام من العام الماضي، كتبنا احتجاجاً على الرقابة اللبنانيّة التي اعتدت على فيلم لسيمون الهبر «سمعان بالضيعة». طلب الضابط آنذاك بتر خمس دقائق من الشريط الذي يستعيد ـــــ بفنيّة ونزاهة عاليتين ـــــ مرحلة حرجة من تاريخنا القريب المسيّج بصمت مرضيّ مشبوه. وها هي المهزلة تتكرّر على نحو مخجل: لقد رفض الأمن العام أخيراً السماح بعرض فيلم ديغول عيد «شو صار؟»، من دون تقديم أي مبررات، ما اضطر مهرجانين في بيروت، خلال أقل من شهر، إلى سحبه من البرمجة في اللحظات الأخيرة.
التجربتان المختلفتان على مستوى الأسلوب، تنتميان إلى اتجاه واحد في السينما اللبنانيّة، يمكن اختزاله بـ«أركيولوجيا الحرب». هناك هاجس أساسي يجمع بين فيلمي الهبر وعيد، هو من العلامات الفارقة لجيل ما بعد الحرب الأهليّة: الحفر المؤلم في الذاكرة، من خلال تجارب ذاتيّة غالباً، لمحاولة استيعاب ما جرى بالأمس، والتطهّر من الماضي الملطّخ بشتّى أنواع الآثام والجراح. ضيعة العم سمعان تسكنها الأشباح منذ هجّر أهلها على يد أهالي الجوار. أما ضيعة ديغول عيد، فتخيّم عليها أطياف مروّعة من نوع آخر. بلغة متينة تعتمد سينما الحقيقة، يستعيد المخرج الشاب المقيم في فرنسا، المجزرة التي دمّرت حياته قبل ثلاثين عاماً، على خلفيّة ثأر عائلي اتخذ طابع العصبيّة الحزبيّة.
ومن نافل القول أن الجهاز الأمني الذي يعوق عرض هذا العمل الفنّي، يعتدي على حريّة التعبير، بحماية المؤسسة الشرعيّة التي تكفل تلك الحريّة. ويعتدي على المواطنين، إذ يفرض نفسه وصيّاً عليهم، ويحدد بكل ثقة آفاق وعيهم وذوقهم. لكن أخطر ما في الأمر أن تلك الممارسات القمعيّة المهينة ـــــ التي آن أوان الاستعاضة عنها بضوابط عصريّة، ومعايير حضاريّة يحميها القانون ـــــ تسعى إلى مصادرة الذاكرة الجماعيّة، ومنعنا جميعاً من مواجهة ذواتنا في مرآة الماضي القذرة. علماً بأنها الطريقة الوحيدة لبناء السلم الأهلي بطريقة سليمة ونهائيّة. من يصادر فيلم «شو صار؟»، هو شريك موضوعي في كل المجازر المقبلة التي تتربّص بلبنان، وطن الغرائب والعجائب...