باريس | ما الجامع بين محمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد؟ الجواب: النقد، كمشروع لعملية إعادة تأسيس ثقافي وفكري في ما يسمّى بـ «البلدان الإسلامية»، تحيي ما أهمل من تراثها تعسّفاً، تزيح هالة «الصلاحية الأبدية» عما يقدّس منه ليظهر كما هو، اجتهاداً حدوده هي حدود التفكير البشري. المفكرون الثلاثة، المغربي والجزائري والمصري
، يلتقون مجدداً في الأيام الأخيرة للعام 2010 الذي شهد رحيلهم تباعاً، من خلال الندوة التي تحتضنها اليوم وغداً «جامعة ليون الثانية» في فرنسا، بعنوان «مسألة النقد في الفكر الإسلامي: تصورات وممارسات».

هذه التظاهرة تأتي تقديراً لما بذلوه من جهد «لاستغلال مكاسب العلوم الإنسانية والاجتماعية في تطوير الفكر النقدي». وتشترك جهات عدّة في تنظيم الملتقى منها «جامعة ليون 2»، و«المركز الوطني للبحث العلمي» في فرنسا (CNRS) و«دار الشرق والمتوسط» (ليون) و«معهد البحوث المغاربية المعاصرة» (تونس) و«مركز جاك بيرك» (الرباط).
سيركّز شريف فرجاني (جامعة ليون) ومحمد صغير النجار، مدير مجلة «Prologues» (الدار البيضاء) على مكانة النقد ووسائله لدى أركون وأبو زيد والجابري. وهو الأمر الذي سيتطرق إليه محمد حدّاد (جامعة منوبة) في حديثه عن «الخيارات الصعبة المطروحة على الفكر النقدي الإسلامي»، وستيفان فالتير (جامعة لوهافر) في محاضرته عن «مكاسب وحدود الفكر النقدي في الإسلام المعاصر». وسيُعرض مشروع أبو زيد الفكري في محاضرتين عن «النقد والهرمنطيقيا» (رشيد بن زين، معهد العلوم السياسية، إيكس آن بروفانس) و«إعادة قراءة نقدية للعلاقة بين اللغة واللاهوت» على ضوء أعماله (جوزيف ديشي، جامعة ليون). وسيلي هاتين المداخلتين فيلم عن حياة هذا المفكر وشهادة لسيد بحراوي (جامعة القاهرة).
أما مشروع أركون، فسيُعرض في محاضرات عن «النقد الحديث للعقل الإسلامي» (أورسولا غونتر، جامعة هامبورغ) وازدواجية العالم و«الداعية» في أعماله (محمد العيادي، جامعة عين الشقّ)، ومساهمته في تحقيق الانتقال من «الإسلامولوجيا الكلاسيكية» إلى الإسلامولوجيا التطبيقية» (محسن إسماعيل، جامعة ران).
وتجدر الإشارة إلى أن حظّ الجابري من برنامج التظاهرة أقلّ وفرة من الراحلين الآخرين، فهو لم يُخَصّ سوى بمحاضرتين، أولاهما مقارنةٌ بين «مفهوم العقل» لديه ولدى أركون سيلقيها الهواري عدّي (معهد العلوم السياسية، ليون) والثانية مناقشةٌ لوجهة نظره في «فهم القرآن» لفيفيان ديبرمار (جامعة باريس الثامنة). وقد يَحرم هذا الحاضرين من الاطّلاع على جوانب مثيرة للجدل في بحوثه، كاختياره إطاراً عربياً لها (مفهوم «العقل العربي» مثلاً)، ما يميزه عن أركون وأبو زيد اللذين تحركا في إطار أكثر اتساعاً، هو الإطار الإسلامي.
ويلاحَظ تركيزُ البرنامج على الجوامع بين أعمال أركون وأبو زيد والجابري على حساب نقاط الاختلاف بينها. لا يمكن فهم هذا الخيار من دون الرجوع إلى إطار الملتقى الإيديولوجي إن صح القول، كما يحدده ضمنياً نصّ إعلانه. هذا النص يصور الاحتفاءَ بالمفكرين الثلاثة، كردّ على وضع «لا يزال فيه الإسلام ينظر إليه من خلال التعبيرات الصاخبة لتياراته السياسية الأكثر راديكالية». كذلك، وبطريقة شبه خطابية، يجزم بأن «محكمة دينية» هي التي أمرت بتطليق أبو زيد من زوجته، وهذا ليس صحيحاً. هذا الحكم الغريب نطقت به محكمة مدنية، بعد شكوى استند صاحبها إلى قانون ديني ــ الحسبة.
ويبدو هذا الإطار الإيديولوجي أكثر وضوحاً، في كون النص المذكور يدّعي اختصار قرابة قرنين من الحراك الفكري في ظاهرة واحدة وحيدة: «تمزّق» مفكري العالم الإسلامي بين قطبين لا ثالث لهما، أحدهما «معاداة العلوم الإنسانية الغربية واتهام الغرب بالمادية والسعي إلى إخضاع كل شيء لهيمنته»، والآخر هو الرغبة في الاستفادة من مناهج هذه العلوم «التي من دونها كانت ثقافة المجتمعات الإسلامية ستدير ظهرها للتاريخ». تُرى ما موقع أركون وأبو زيد والجابري من هذين القطبين وسهامُ نقدهم طاولت الاستشراقَ ومناهجَه، من دون أن يؤدي ذلك بهم إلى مناصبة «الغرب» وثقافته العداء؟ رفض هذا الاستقطاب هو تحديداً ما يميزهم عن المفكرين السلفيين الرافضين للغرب جملة وتفصيلاً، وعن بعض العلمانيين ممن لا يرون «التنوير» في غير التراث الفلسفي الأوروبي.

التاسعة من صباح اليوم وحتى مساء الغد ــ قاعة المحاضرات في «جامعة ليون 2»، 7 شارع رولان، 69007، ليون/ فرنسا. للإستعلام: 472715853(0) 0033 ــ
www.univ-lyon2.fr


بعد الرحيل

إرث المعتزلة الجدد


في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، يعرض جناح «دار الساقي» الكتاب الأول الذي يصدر لمحمد أركون (الصورة) بعد وفاته. في «نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيديّة»، يرى أركون أنّ حوار الأديان والثقافات والحضارات لا يمكن أن ينطلق انطلاقة فعلية إلا إذا قام الجميع بنقد راديكالي لموروثاتهم، أي للاهوت القرون الوسطى الذي يكفّر الآخرين وينبذهم. ويقول أركون في كتابه هذا بضرورة اللجوء إلى عقلية جديدة، لمواجهة المشاكل الراهنة. ليختتمه بالحديث عن علاقته الشخصية بالأب يواكيم مبارك وبالمستشرق الشهير لويس ماسينيون، وعن مساره الشخصي والفكري.
من ناحية أخرى، صدر عن «المركز الثقافي العربي» في بيروت كتاب جديد لنصر حامد أبو زيد بعنوان «التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير». يطالعنا المفكر المصري هنا بسؤال إشكالي: «تجديد الخطاب الديني لماذا؟» لا يكتفي أبو زيد بالإجابة المباشرة، بل يقرأ تساؤله بعين أركيولوجية، ترصد مؤثرات التاريخ الإسلامي في توطيد العلائق بين العقل والتحريم... فالسلطة الدينية، ما كانت وحدها المسؤولة عن سطوة منهجية الانغلاقيين، بل كان للسلطة السياسية دورها في إرساء إيديولوجيا التوهيم الديني والسياسي في آن.


مناهج متقاطعة في مناظرة المقدّس



ريتا فرج

هل تسعفنا المقارنة بين ثلاثة روّاد من علماء عرب جمعتهم زعزعة اليقينيات، وقلق معرفي تجاه النص الديني والتاريخ؟ أين تكمن مفاصل الشراكة العلمية بينهم، رغم تعدد الأطروحات واختلاف المناهج؟ رحلة الغياب التي وحدّت محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد عابد الجابري، تضعنا أمام أحقيّة هذا التساؤل. إلا أن تجليات الإبداع أتت متفاوتة في مناهجهم، سواء عبر تأويل الحدث الإسلامي وما يتفرع عنه من آليات فهم النص، أو لجهة رصد إرهاصات نقد العقل العربي في السياسي والديني. لكنها في النهاية انطلقت من هاجس إحياء معركة الأفكار، وإخراج العرب والمسلمين من النصوصية، ومن الاتجاه المفرط نحو التريث.
أركون كرس حياته الأكاديمية لمشروع قراءة الحدث الإسلامي. حفر عميقاً، في أركيولوجيا النصوص التأسيسية، وعمل عليها، بمنهجية ديكارتية، تجيز التفكير النقدي المستدام، لذوي الألباب. وبعدما تجرّع المعتزلة الأوائل كأس العقل، أكمل أركون رحلة الكشف، رغم ما خلّفه الاتجاه الأشعري من انسدادات لاهوتية، أحالت التفكّر إلى حرفية تأخذ بظاهر النص، والتأويل إلى دوغما دينية، لا تتوانى ولو للحظة عن تكبيل حركية ما يحويه القرآن، من حيوات تجيب عن الواقع. فكيف قرأ أركون تجليات إسلام النص؟ كثيفة هي المناهج التي اعتمد عليها صاحب «الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي». والأكيد أن تجربته المعرفية في فرنسا فتحت له الأبواب الموصدة، بمعنى أنّه استخدم العلوم السوسيولوجية، وعلم الإسلاميات التطبيقية، وأدواتها في الأنتروبولوجيا والألسنيات والابستيمولوجيا، لمقارعة الأرثوذكسية ـــ أي العقل التقليدي والعقل الخادم الواقع تحت سيطرة العقيدة التقليدية. أراد التأكيد أنّ النقطة المشتركة في البناء الإسلامي الكلاسيكي تتمثل في القضاء على تاريخية النصوص التأسيسية، فيما المشتهى هو مناظرة المقدس وتاريخه، لا إقصاؤه عن جدلية الوحي، وسببيّة التنزيل.
على المقلب الآخر، لم يكن نصر حامد أبو زيد أقل قلقاً بالمعنى العقلي من معاصره أركون، وإن بدت عدته المفهومية، أشدّ ميلاً إلى تأويل النص القرآني، وليس محاكاته في السياق العام. أبو زيد، المعتزلي الفكر والانتماء، قاد حقبة التثوير، أي أحدث ثورة في فهم النص المقدّس، مستخدماً علوم القرآن، من الإعجاز والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم، والعام والخاص، وأسباب النزول، والدلالة اللغوية للمصطلحات، ما أعطاه حيزاً أوسع في دراسة المقدس من الداخل، وبأدواته هذه المرة، فطوّرها، وأدخل تقنيات جديدة عليها. ولعل أطروحته الشهيرة «مفهوم النص ـــ دراسة في علوم القرآن»، تمثّل ذروة عطائه التفاكري. لكنّ منهجه التاريخاني الذي حاكى بها اللغة والوحي، أفضى به إلى الربط الوظيفي والتواصلي بين ثلاثية اللغة والوحي والتاريخ. أبو زيد الذي طالته ترّهات الظلاميين، فكفّروه من دون أن ينجحوا في اختبار قدرته على الاستمرار العقلاني، أنتج صفوة مؤلفاته في المنفى. احتكاكه مع الفضاء الأوروبي رسم له ملامح جديدة، ساعدته على الانطلاق من النقطة التي توقف عندها، لكن على وقع التثاقف مع ما أنتجته العلوم الاجتماعية الأوروبية، ما أضفى عمقاً آخر على تخريجاته وتأويلاته. هكذا، لم يقطع مع إرث أهل الاعتزال، بل أكمله على خطى التركيب والتفكيك الرشدي (نسبة إلى ابن رشد) ـــ الديكارتي.
محمد عابد الجابري، صاحب رباعية «نقد العقل العربي»، آثر الخوض في أركيولوجيا التراث عبر معاقلة لا تبعده كثيراً عن مشروع أركون. «حضور التراث في المخيال الجمعي العربي، هو الذي حرك التاريخ»، والجمع بين الهوية العربية وهذا العقل، يبرهن على فرضية أساسيّة، قوامها «أنّ العقل المدروس، عقل يتعيّن بالتجربة العربية». هل تعمّد صاحب «دراسة في علوم القرآن»، الامتناع عن الدخول في نقد العقل الإسلامي مخافة التكفير؟ وهل يمكن الفصل بين ما هو إسلامي وما هو عربي، لجهة التواصل التاريخي الذي أثّر بدوره في إعادة تركيب هذا التراث؟ التراث، حاضر في الذاكرة والفعل، والحدث التاريخي، غير أنّ الجابري حاوره بعين نقدية، محدداً طبيعته، مفكّكاً بناه، من دون أن يخوض في اللاهوت الإسلامي كما فعل أركون. سار الجابري على خطى ابن رشد رائد الفلسفة العربية العقلانية، ليجد في الإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي، النموذج الأهم في أصول الفقه والشريعة. لكن حين اجترح مفهوم «العقل المستقيل» كما رصد تجلياته في المشرق العربي، وعند بعض الأئمة الشيعة، لم يدرك أن هذا العقل «المشرقي» إذا جاز التعبير، هو عقل محرك للتاريخ، وعقل معارض، وعقل تفكيكي، حتى لو دخل في كبوة فرضها المجال الجغرافي ـــ الديني، وليس الاستقالة من النقد.
ثلاثي العقل النقدي في الإسلام والتاريخ: قد يصلح هذا العنوان لأن يكون القاسم المشترك بين محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد عابد الجابري. صحيح أنّ كل واحد منهم قدّم جهداً تواصلياً من الناحية المعرفية، لكنّهم حملوا لواء التفكيك والنقد. ومهما تعددت إشكالياتهم المفتوحة، يبقى أن العقلانية حاضرة، في خلاصاتهم ومناهجهم.


بين المشروع الأكاديمي والتجربة الشخصيّة



خليل عيسى

يمكن القول إنّ رحيل المفكرين العرب الثلاثة: المصري نصر حامد أبو زيد، والجزائري محمد أركون، والمغربي محمد عابد الجابري، يكفي لجعل عام 2010، منعطفاً أساسياً في تاريخ ما يسمّى الدراسات التراثية الإسلامية.
يشترك الثلاثة في أنّهم أتوا من بيئة متواضعة، ثمّ توجّهوا إلى الجامعات حيث حصّلوا معرفة عميقة في النصوص التراثية الإسلامية. اقتصر عمل أركون وأبو زيد على الأبحاث الأكاديمية منذ البداية، على عكس الجابري الذي بدأ حياته بالانخراط في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي خلال الخمسينيّات، ثم أصبح قائداً مرموقاً في «حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية». لاحقاً اعتقل الجابري أكثر من مرّة، قبل أن ينكبّ على الإنتاج الأكاديمي، بعيداً عن السياسة.
أصدر الجابري الطبعة الأولى من عمله المرجعي «نقد العقل العربي» عام 1984، ليستتبعه بكميّة كبيرة من المؤلفات. في كتابه هذا محاولة متكاملة «لقراءة حداثية نقدية للتراث» ـــــ كما سمّاها الباحث عبد الله بلقزيز ـــــ وذلك من قلب بُنية نظم المعرفة في التاريخ الإسلامي. تحوّلت ماركسية الجابري الشابة إلى قراءة للنصّ التراثي تعتمد باشلار، وفوكو، وبلانشي، وجان بياجيه في دراسات لإيبستيمولوجيا عربية مفترضة. انطلقت هذه الدراسات من إقرار بالحاجة إلى نقد لحداثة غربية بشّر بها الماركسيون والقوميون في العالم العربي من جهة، والدعوة إلى بناء حداثة عربية ذات أصول تراثية من جهة أخرى. لطالما كانت كتابات الجابري أكثر استساغة من كتابات أبو زيد المعقّدة التي تعوزها معرفة بالسيميائية، أو كتابات أركون المتشعِّبة معظم الوقت... وهذا ينطبق أيضاً على كتابات الجابري، لكونها كانت أقلّ جرحاً للنرجسية الإسلامية والعربية من غيره. من جهة ثانية، لم يكتب أركون إلّا بالفرنسية. صاحب «قضايا في نقد العقل الديني ـــــ كيف نفهم الإسلام اليوم؟»، يشترك مع الجابري بتحدّيه المبكّر للمقولات الاستشراقية عن الإسلام. إلا أنّه قام بدراسة ما سمّاه لاحقاً «العقل الإسلامي»، فيما انطلق الجابري إلى دراسة «عقل عربي» فحواه إسلامي الأصل. لم يكن أركون صاحب نظرية تأسيسية واضحة المعالم بشأن التراث كما كان الجابري. بل إنّ المفكر الجزائري الذي اهتمّ بقراءة النصوص مستعملاً أدوات معرفية علميّة مثل الدراسات المقارنة، والمنهجيّة التاريخيّة الوضعيّة في مقاربة النص القرآني، رأى في قراءته الحداثية للإسلام، أنّ العلمانية حلّت في التاريخ الإسلامي منذ استيلاء معاوية على السلطة ـــــ وذلك قبل المعتزلة. الاعتراف بذلك يعني نقاشاً في القراءات التبريرية للنصوص التراثية، تحت ضغط الوضع السياسي في معظم الأحيان. إنّها قراءة جديدة للقرآن، بوصف الإسلام أحد مكوّنات الحضارة الكونية، مما استلزم هجوماً عنيفاً على أركون من دعاة الإسلام السلفي، وتضييقاً على نشر كتاباته في بلده الأم. وقد اشترك مع نصر حامد أبو زيد بتعرّضه لأقذع أنواع الهجوم، وإنّ لم يؤدِّ ذلك الى تطليقه من زوجته بالقوة وإبعاده إلى المنفى.
أبو زيد، الذي أبعد إلى هولندا، لم يأخذ الوقت الكافي في بلورة مشروعه عن هرمنطيقيّة القرآن (من Hermeneutics)، وهي قراءة تأويلية للنصِّ المُنزل، تأخذ في الحسبان الظروف التاريخية، والسياسية، والاقتصادية لنزول الوحي. قراءة تعتمد الخروج عن التفسيرات التراثية التسطيحية التي تلخّص النقاش على أنّه التعارض المزمن والتقليدي بين العلمانية والدين. لوحق نصر حامد أبو زيد باللعنات حتى أمستردام، ويشبه مصيره مصير سلفه ابن رشد، وتحوّل في السنوات الأخيرة من حياته إلى نجم إعلامي، وذلك بسبب الضجة الكبيرة التي أثارتها قضيّة تكفيره في مصر. في المقابل، أبى صاحب «فلسفة التأويل» أن تبدأ محاضراته في الغرب، إلا بالتشديد على إسلامه.
يمكن القول إنّ أبو زيد وأركون كانا أقلّ تشكّكاً من محمد عابد الجابري، في الأدوات المعرفية التي استعملاها لقراءة التراث، في تقليد حداثي نقدي. فقد انتقل المفكر المغربي من التشكيك في نظم المعرفة الغربية الأصل، إلى موقف عدمي في أحيان كثيرة، يرفض الغرب، والتراث بتأويلاته السلفية، لينكفئ في بحث تاريخي عن بنية العقل العربي.
كان الجابري أقرب إلى «موضة أكاديمية»، عند الكثير من العرب، وكان أبو زيد أقرب إعلامياً إلى الناس بسبب معاناته الشخصية، فيما بقي صوت أركون أخفت من صوت الاثنين معظم الوقت. لكنّ أبو زيد كان المثقف الأكثر عضويةً من بين الثلاثة بالمعنى الغرامشي للكلمة، إذ اضطر، بهدف الاقتراب من جمهور، إلى إفهام هذا الأخير كتاباته المعقّدة، وبلغة إعلامية بسيطة... وبذلك انتقل من مجال أكاديمي بحت إلى المجال سياسي العام.
إنّ قراءة مقارنة ومتأنّية لأبحاث الراحلين الثلاثة هي ما نحتاج إليه اليوم. في هذا السياق، تأتي سلسلة المحاضرات التي تعقدها جامعة ليون في فرنسا حول «مسألة النقد في الفكر الإسلامي المعاصر»، لتعالج نتاج المفكّرين الثلاثة... على أن تتبعها ندوتان حول الموضوع نفسه، في المغرب وتونس.