صار توقيت إرسال «الإنذارات» الإسرائيلية بالإخلاء قبل الغارات العدوانية وقتاً ثابتاً وقاسياً بالنسبة إلى الكثير من اللبنانيين. فها هو المتحدث باسم «الجيش» الإسرائيلي أفيخاي أدرعي يحدّد عبر حسابه على منصة «إكس» المناطق التي يجب إخلاؤها والابتعاد عنها لمسافة لا تقل عن 500 متر بحجة وجود منشآت ومصالح تابعة لـ «حزب الله » فيها. فما يكون من اللبنانيين المهتمين إلا إعادة إرسال «الإنذارات» ومشاركتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو مجموعات «الواتس»، ثم التسمّر أمام شاشات التلفزيون لرؤية القصف مباشرة على الهواء، تزامناً مع محاولة تحديد الموقع بدقة ومعرفة محيطه أو في أسوأ الأحوال إن كان المبنى الذي يقطنه هو من ضمن الأهداف المستهدفة. اعتباراً من مساء يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأ العدو الإسرائيلي بإصدار «إنذارات» بالإخلاء لسكان ضاحية بيروت الجنوبية، وتحديداً لثلاثة مبانٍ في حيّي الليلكي والحدث المكتظين بالسكان، من دون تحديد إطار زمني للإخلاء. فلِمَ قد يقوم العدو الإسرائيلي بإرسال بعض «الإنذارات» قبل القصف، وهو الذي لا يعبأ بالمدنيين ويعدّهم أضراراً هامشية في أي هجوم همجي يقوم به؟
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان، تعمّد العدو القصف العنيف يومياً في مختلف مناطق لبنان وارتكاب مجازر بحق عدد من العائلات والقرى، وبالتزامن استخدم إستراتيجية «الإنذارات» قبل تنفيذ تهديده بقصف بعض المباني في ضاحية بيروت الجنوبية أو مجموعة من الأحياء في مدن وقرى لبنانية. لعبت هذه الإستراتيجية دوراً في تحقيق أهداف متعددة للعدو، كان أولها الإيحاء كذباً بأنه يكترث لحياة المدنيين المتواجدين في تلك المناطق المستهدفة، وخصوصاً تحت الضغط الأميركي «الظاهري» للتقليل من استهداف المدنيين، فكانت «الإنذارات» أسلوبه للتغطية على المجازر التي يرتكبها بحق الأبرياء. كما أنّ إطلاق أدرعي «الإنذارات » افتراضياً وبشكل دوري أسّس لوتيرة صار ينتظرها اللبنانيون المهتمون، فتقصّد العدو بذلك خلق حالة من الترقب والتصديق لما يتم إرساله موثقاً بالخرائط. وقد خدمه من حيث لا يدري بعض الإعلام اللبناني الذي يخصّص نوافذ يومية للضاحية الجنوبية من مجمل شاشته لرصد القصف مباشرة على الهواء. كما أنّ هذه التغطية الإعلامية المحلية للغارات التي يتم التحذير منها، تحقق هدفاً يقع ضمن خطة الحرب النفسية الإسرائيلية ضد المواطنين اللبنانيين بدل أن يعتبرها بعضهم لمصلحتهم، فهذه المتابعة اللحظوية لتصوير الغارات صوتاً وصورة وهي تهدم بيوت النازحين عنها قسراً وتحوّل ذكرياتهم فيها وحولها إلى ركام هي جزء من إستراتيجية كيّ الوعي التي يتبناها العدو الإسرائيلي في حربه الوحشية والوجودية اليوم أكثر من أي حرب سابقة. هو يريد استرداد صورته القوية وقدرته على الردع في عقول المؤيدين للمقاومة كما لدى مستوطنيه المذعورين من الزوال، وضمان عدم تفكيرهم في مواصلة تأييد المقاومة ودعمها عبر خلق الخوف وتضخيمه في نفوسهم، ومن ربط خيارهم المقاوم بالثمن الذي سيدفعونه لقاء ذلك. يهدف مشهد المباني المتداعية أو النيران المستعرة أو الدخان المتصاعد إلى إضعاف عزيمة المشاهدين بشكل عام وأصحاب هذه المنازل بشكل خاص، كما إضعاف إصرارهم على التصدي للعدو ومقاومته بشتى الطرق. زد على ذلك، تثبيت صورة العدو القادر على التدمير و«إرجاع لبنان إلى العصر الحجري» كما هدد سابقاً في مقابل عدم تسريب الأضرار التي تلحق بالمستوطنات الإسرائيلية جراء ضربات المقاومة المتتالية يومياً، وبذلك فإن العدو يعيد بعضاً من ردعه تماشياً مع هدم الثقة بقدرة المقاومة الفعلية.
شبكة الهيليوم الموجودة حالياً في لبنان تسمح بالانكشاف الكامل لمراقبة السيارات وتنفيذ الاغتيالات والتدمير
إذاً ليس حرصاً على الأرواح بل خدعة إعلامية ونفسية. كما توضحت المآرب الإضافية للعدو، وخصوصاً مع الحديث عن استخدامات تكنولوجية واستخباراتية تحققها هذه «الإنذارات»، لتنقلب المعادلة من إيهام الرأي العام العالمي والإعلام الغربي، ومن خلفه سياسياً، بالحرص على المدنيين إلى وسيلة لتحديد أهداف جديدة من أجل الانقضاض عليها واغتيالها. ويوضح الخبير في الحوكمة الرقمية ربيع بعلبكي أنّ عملية الاتصالات المكثفة التي تحصل بعد «الإنذارات» بين الساكنين وأقاربهم وجيرانهم في تلك المنطقة، تخدم العدو في تجديد البيانات التي سبق له الحصول عليها قبل الحرب، عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي والبحث عن كلمات مفتاحية في الاتصالات الجارية لتعقّب شخصيات محددة تكون قد غيّرت أماكن سكنها أو عملها. ويضيف بعلبكي أنه يتم رصد حركة السيارات المتجهة إلى المكان والخارجة منه ومقارنتها بالبيانات المستحصلة سابقاً لتحديد حركة أصحابها، إلى جانب تعقب مؤشرات بيومترية مثل بصمة الصوت وبصمة اليد وشكل الوجه ولو من هاتف غير تابع للشخصية المستهدفة، بل لأحد المقربين منها، معتبراً أنّ هذه «الإنذارات» ما هي إلا «أفخاخ لتحديث المعلومات، وخصوصاً مع تحديد رقعة جغرافية معيّنة عن قصد مع علم العدو أن المباني قد تكون مخلاة أصلاً». ويشير بعلبكي إلى أنّ العدو يبحث عن مقاطعة المعلومات الموجودة بحوزته من مصادر عدّة من بينها برامج تابعة لوزارات الصحة والتربية والشؤون الاجتماعية اللبنانية مع معطيات أخرى، «وبمجرد تطابقها، يتم تحديد الأهداف وتتبعها». وإذا كان توظيف الأقمار الاصطناعية والمسيرات حاضراً بقوة في هذه الحرب وليس بجديد، إلا أنّ بعلبكي يحذر تحديداً من شبكة الهيليوم وهي شبكة لا سلكية لا مركزية مفتوحة المصدر تعمل بتقنية «بلوكتشاين» لأجهزة إنترنت الأشياء (IoT) المنخفضة الطاقة الموجودة حالياً في لبنان والتي تسمح بالانكشاف الكامل لمراقبة السيارات والتحكم عن بعد والتوأم الرقمي، والقادرة على تنفيذ الاغتيالات، التجسّس، التدمير، السرقة وغيرها من الأنشطة الإجرامية، مطالباً بإيقاف العمل بها لخطورتها.
وعلى جانب منفصل، تؤكد منظمة العفو الدولية أنّ «إنذارات» الإخلاء التي يصدرها العدو لسكان ضاحية بيروت الجنوبية وأهالي جنوب لبنان ليست كافية، بل مضلّلة في بعض الحالات، مشددةً على أن هذه «الإنذارات» لا تُعفي إسرائيل من التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني بعدم استهداف المدنيين أبداً، واتخاذ جميع التدابير الممكنة لتقليل الضرر الذي قد يلحق بهم. وتشير الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كالامار إلى أن «تحليلنا للإنذارات التي أصدرها الجيش الإسرائيلي يبيّن أنها لم تتضمن خرائط مضللة فقط، بل صدرت أيضاً في غضون مهلة قصيرة – في إحدى الحالات قبل أقل من 30 دقيقة من شن الغارات – وفي منتصف الليل، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي يكون فيه الكثير من الناس نائمين أو غير متصلين بالإنترنت أو لا يتابعون التقارير الإعلامية ». وكي يُعتبر «الإنذار» فعالاً، يجب أن يأتي في وقت مناسب مع توفير معلومات عن الطرقات والوجهات الآمنة، وهو ما لم يحدث في أي من «الإنذارات». وتضيف كالامار أنّ إصدار أوامر إخلاء لسكان بلدات وقرى بأكملها في جنوب لبنان يثير تساؤلات حول ما إذا كان المقصود تهيئة الظروف للنزوح الجماعي. وبغض النظر عن فعالية «الإنذارات»، فإنّها لا تعني أن العدو يمكن أن يعامل المدنيين المتبقين في المنطقة كأهداف، بل يجب أن يكون الأشخاص الذين يختارون البقاء في منازلهم لأي سبب كان، محميين وعلى «إسرائيل» في جميع الأوقات التقيد بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وفقاً لما تؤكده منظمة العفو الدولية.