بعد الانتظار مدة ثلاثة أيام لهدوء الأمواج وعودة ظروف البحر إلى طبيعتها، أصبح بالإمكان الرؤية بشكل أوضح، لكن الوقت كان متأخراً، وانتُشلت جثة الشاب الذي كان يمارس رياضة السباحة مقابل الروشة، بحسب ما ورد في بيان للمديرية العامة للدفاع المدني اللبناني، بتاريخ 15 أيار 2023. حالات الغرق في لبنان في ازدياد ومرجّحة، للأسف، للارتفاع أكثر مع قدوم الموسم السياحي المسعّر بالدولار، حيث أصبح الدخول إلى المسابح الخاصة مخصّصاً لفئة معيّنة من المجتمع. وللأغلبية ما تبقى من الشواطئ والأنهر العامة، مع افتقار إلى العدد الكافي من المراقبين والمنقذين البحريين وغياب القوانين التي تتعلق بالسلامة العامة في المساحات المائية. يُذكر أن عدداً كبيراً من الوفيات المرتبطة بالمياه تُعزى إلى الغرق العرضي، لكن لا بد من مراعاة الاحتمالات الأخرى عند التحقيق في هذه الأنواع من الوفيات (راجع «القوس»، 30 نيسان 2022، «كي لا تضيع الحقيقة في البحر»). يستعرض هذا المقال «المباحث العلمية تحت الماء» ويتناول خطورة عدم الأخذ بأدنى معايير الوقاية ومراعاة إرشادات الدفاع المدني والجهات المختصّة
«لَك شِك شِك، قرّبوا الصبايا يتفرّجوا، هلّق بينعجبوا فيك». بصوته العالي ونبرته الحماسية، يراقب طارق المارّة قرب صخرة الروشة كي يعطي صديقه رامي إشارة «للشكّ عن الصخرة». يأخذ رامي نفَساً عميقاً، وينتظر اللحظة المناسبة للقفز عند وصول «الصبايا» لمشاهدة عرض الموسم. لم يعِ رامي، الذي قفز بخطوات بطيئة، أن ذلك الارتفاع (36 متراً) يتطلب سرعة إضافية لتفادي الصخور التي اصطدم بها وأدّت إلى وفاته. راهن رامي، كالعديد من الضحايا، بعد تلقّيه التشجيع والتصفيق بالمجازفة في حياته للفت نظر الجمهور على الأرصفة، غير مهتم بسلامته.
لا تقتصر حوادث الوفاة على القفز من أماكن خطيرة، بل تعود أيضاً إلى الإهمال وعدم الكفاءة في ممارسة هواية السباحة.
«بكرا بيجي بيدق الباب، وبيقلّي اشتقتلك يا إمّي» تقول أم ربيع التي فقدت ابنها «السبّيح» منذ عشرين عاماً. وتضيف: «هو أكيد تأخر لأنو قذَفو التيّار لمحل بعيد، أو يمكن فقد الذاكرة». وتشرح تفاصيل الحادثة: «كان البحر هائجاً والأمواج مرتفعة جداً، لكنه أصرّ على السباحة غير مبالٍ». هذا المصير المجهول وضع عائلة المفقود في معاناة مستمرة، بين وجع الفراق وأمل العودة. تنهي أم ربيع: «لا ما رح روح حِجّ عنو، ما بيجوز، هو أكيد حيّ يرزق».

«فورنزيكس» في المياه
تؤدي المباحث العلمية دوراً في جمع العديد من أنواع الأدلة المختلفة والتحقيق فيها، بما في ذلك الماء. فإذا اكتُشفت جثة في المياه العذبة، يمكن عادة تحديد وقت الوفاة. وإذا توفي الشخص أخيراً، يمكن أن تكون درجات حرارة الأعضاء دليلاً على وقت الوفاة. ولكن بمجرد مرور أسابيع، يصبح تحديد وقت وفاة الشخص أكثر صعوبة، إذ لا تبقى درجة حرارة الجثة مؤشراً جيداً.
من هنا، يصبح مجال علم الحشرات المائية الجنائي مهماً، لأن «الحشرات المائية» مثل مَفصَليّات الأرجل الكبيرة - Arthropods، تساعد الخبراء في تحديد وقت الوفاة.
ولكن التحدّي يبدأ في حال أُزيلت جثة من المياه المالحة، حيث تتعرض للعديد من التغيّرات في درجة الحموضة ودرجة الحرارة المحيطة ومحتوى الملح. وهذه العوامل تجعل تحديد وقت الوفاة عملية صعبة.



الغرق والجريمة
يعدّ إثبات «الغرق الجنائي» بعد مرحلة الموت العرضي صعباً لمجرد طبيعة حدوثه. أي من الصعب إثبات أن أحدهم قد قتل الضحية عن طريق الغرق، إلا إذا كانت هناك آثار جسدية مثل الجروح أو الكدمات، أو إذا رأى شاهد عيان الحدث. يحاول الخبير الجنائي إعادة بناء ما حدث من خلال تحديد ما لم يحدث أولاً. وقد يبدو هذا متناقضاً بعض الشيء ولكنه الطريقة الأفضل لاستبعاد الفرضيات الأخرى غير الموت العرضي.
في بعض الأحيان، قد يصعب إثبات ما إذا كان المتوفّى على قيد الحياة عند دخوله الماء، شرط أن تكون الجثة مغمورة لفترة من الوقت، فتمتلئ الرئتان بالماء. وفي أحيان أخرى، قد تظهر حالة تسمّى «الغرق الجاف»، إذ تكون حنجرة المتوفى متشنجة بسبب دخول الماء إلى الحلق، وبالتالي يُحظر الممر المؤدي إلى الرئتين، فيتعذّر خروج أو دخول المزيد من الماء. ومع ذلك، سيبحث الخبير عن آثار للدماء وعلامات نزف في الرئتين حيث يتسبب التشنج القوي في نزفهما. كما يبحث أيضاً عن أيّ أدلة أثر وبقايا من المناطق المحيطة حيث عُثر على الجثة. وقد تشمل الأدلة بقايا من الحياة النباتية التي لا توجد إلا تحت الماء أو الصخور.
يحاول الخبير الجنائي أيضاً تقديم دليل حول حدوث الغرق في المياه العذبة أو المالحة، وهذا مفيد بشكل خاص في حالة الشكّ بأن تدخلاً جنائياً قد حدث لتضليل الحقيقة. على سبيل المثال، إذا عُثر على الجثة في الماء العذب ولكن الماء في رئتيه هو مالح، عندها يمكن الافتراض أنه لم يمت حيث عُثر عليه.

100 حالة وفاة في السنة
يبلغ عدد حوادث الغرق التي تؤدي إلى وفاة، في كل سنة، ما بين 100 و110، بحسب رئيس وحدات الإنقاذ البحري في الدفاع المدني سمير يزبك، يتوزعون ما بين البحر (على طول الشواطئ اللبنانية) والأنهر والبحيرات وبرك الريّ.
وعن الحوادث التي تؤدي إلى الوفاة، يشير يزبك إلى الحالات الآتية:
• الغرق بسبب التيّارات المائية القوية.
• الأمواج العالية.
• حالات صيد السمك، حيث تقذف الأمواج الصياد وتؤدي إلى غرقه.
• عدم معرفة كيفية وضع الشبك لصيد السمك عبر القارب، ما يؤدي إلى انقلابه والتسبّب بالغرق.
• القفز من أعالي الصخور.
• الغطس تحت الماء عبر حبس النفس، ما يؤدي إلى الغرق.
• غرق الأطفال الذين تسحبهم الموجة نتيجة إهمال الأهل.
ويضيف يزبك إن «عدم وجود عدد كاف من رجال الإنقاذ يساهم في ازدياد حالات الغرق التي تؤدي إلى الوفاة. حيث تشهد شواطئ الرملة البيضاء وصور وعمشيت اكتظاظاً لآلاف الأفراد مع عدم القدرة على مراقبتهم. كذلك خطورة الانزلاق عن الصخور الموحلة في الأنهر، ما قد يؤدي إلى سقوط الأشخاص في النهر الجارف». وهنا يحذّر يزبك المقيمين من الابتعاد عن الأنهر، ويدعو المزارعين وأولادهم إلى الابتعاد عن برك المياه.
ويوضح أن «للفرد مدة لا تتجاوز أربع أو خمس دقائق لمقاومة الغرق، ويسقط بعدها في قعر البحر. وفي حال كانت الأمواج عالية أو حالة البحر هائجة، ليس بإمكان الدفاع المدني العمل إلا بعد نصف ساعة. وفي بعض الأحيان، ونظراً إلى خطورة الظرف يستحيل العمل والمباشرة في الإنقاذ». ويضيف: «ننتظر هدوء البحر للتدخل بسبب وجود الصخور». كما يدعو إلى وضع أكثر من منقذ لمراقبة سلامة المواطنين على الشاطئ. «بس أوقات حتى لو وُجد ألف منقذ، في عندك حالات ما ممكن يتدخّل فيها لأنو بتعرّض حياتو للخطر».

«مش كلّو قضاء وقدر»
«في أغلب الأحيان، لا يمكن التسليم بأن الوفاة نتيجة الغرق هي قضاء وقدر. فإن إقدام الفرد، بكامل إرادته، على ممارسة السباحة في ظل ظروف طبيعية خطيرة يعدّ إهمالاً. نحنا كفريق إنقاذ منعِدّ للمليون قبل ما ننزل» يقول يزبك. فحالة الوفاة في الروشة كانت نتيجة ممارسة السباحة في ظل بحر هائج وأمواج مرتفعة.
طال التهوّر نفسه ضحية أخرى في عمشيت - جبيل الشهر الفائت، بعدما سحبه التيار أثناء ممارسته هواية الغطس، بحسب يزبك. إلى جانب ذلك، يدعو يزبك إلى صدور قرارات منع «الشكّ» من أماكن مرتفعة وخطيرة والسباحة خلال ارتفاع الأمواج. «أناشد المواطنين بعدم التهوّر، فحالات الوفاة في ظل هذه الظروف شبه أكيدة، الانتباه واجب».

لِوضع قرار مناسب لحماية المواطنين
جاء في معظم التشريعات اللبنانية عبارة «السلامة العامة» في متن القوانين والمراسيم والقرارات التنظيمية (راجع «القوس»، 6 آب 2022، قوانين وقواعد تستدعي التطبيق الجدي والمتابعة الدائمة. «السلامة العامة».. آخر الهمّ؟). فالسلامة العامة ليست محصورة بقانون، بل تعني السلامة في كل مكان وزمان. كما أن عدم الالتزام بتلك القرارات، وليس فقط القوانين، معاقب عليه بحسب قانون العقوبات اللبناني. استعمل المشرّع اللبناني مصطلح السلامة العامة في كل من قانون السير والبلديات، وقانون البناء والأشغال العامة وتأمين السلامة في الأبنية والمنشآت والغذاء وغيرها.
إقدام الفرد بكامل إرادته على ممارسة السباحة في ظل ظروف طبيعية خطيرة يعدّ إهمالاً


لكن لا وجود لمثل تلك القرارات والقوانين التي ترعى السلامة العامة في ما يتعلق بالشواطئ العامة. بل يقتصر الأمر على بعض الإرشادات وليس على القرارات. أي بمعنى آخر، إن مخالفة تلك الإرشادات لا تؤدي إلى ملاحقة قانونية بحسب المادة 770 من قانون العقوبات اللبناني التي تنصّ على أن «من خالف الأنظمة الإدارية أو البلدية الصادرة وفقاً للقانون عوقب بالحبس حتى ثلاثة أشهر»، نظراً إلى الخطورة التي تتعلق بالشواطئ العامة من القفز من فوق مرتفعات وصخور وممارسة السباحة في ظل ظروف طبيعية غير ملائمة التي تهدد سلامة النفس.
أليس من المفترض إصدار القرارات اللازمة لمنع هذه الممارسات وفرض عقوبات على مخالفيها، كإحدى الوسائل لردع المواطن؟