الأضواء المسلّطة على جدة في انتظار ما قد تسفر عنه القمة العربية من خطوات غير معلنة تتعلق بملفات لبنان وأزمته الرئاسية، لم تحجب الاهتمام عن القضية الأهم، والتي لا سابق لها، إذ لم يُسجّل سابقاً، في لبنان والعالم، أن وُجِّهَت اتهامات إلى حاكم مصرف مركزي كالتي توجّه اليوم إلى رياض سلامة، ويبقى في منصبه. لذلك، ورغم الجدل حول قانونية مذكّرة التوقيف التي أصدرتها القاضية الفرنسية أود بوروزي بحق الحاكم، إلا أن الجميع، بمن فيهم شبكة حماية الحاكم، بات يعترف بصعوبة بقاء الأخير في منصبه، حتى ولو في ظل شغور رئاسي وحكومة غير كاملة الصلاحيات.وبعد يومين على صدور المذكرة الفرنسية تلقى لبنان، عبر الإنتربول الدولي، نسخة عن «النشرة الحمراء» التي تطلب من جميع الدول الأعضاء في هذه المنظمة توقيف سلامة لمصلحة القضاء الفرنسي. النشرة وصلت إلى وزارة الداخلية وإلى النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات الذي يفترض به، بحسب الأصول، أن يطلب الاستماع إلى سلامة والتحقيق معه واتخاذ الإجراء المناسب. وقالت مصادر قضائية إن عويدات سيكون مضطراً لطلب الحاكم إلى التحقيق الأسبوع المقبل، لكنها رجّحت أن يطلقه ويراسل القضاء الفرنسي لإبلاغه بأن قوانين لبنان تقضي بمحاكمة مواطنيه على أرضه وتمنع تسليمهم للمحاكمة في دولة أجنبية، وبالتالي يتوجّب على القضاء الفرنسي إرسال طلب الاسترداد وملف التحقيق. ونظراً لأن أمراً كهذا يستغرق وقتاً طويلاً، فإن القضاء اللبناني لن يعمد إلى توقيف سلامة، لكنه سيمنعه من السفر بعد مصادرة جوازه.
سياسياً، أكدت مصادر حكومية أن الرئيس نجيب ميقاتي الذي غادر لحضور القمة العربية، دعا إلى لقاء وزاري تشاوري موسع يوم الاثنين المقبل، كان مقرراً أن تُخصص للبحث في ملف النازحين السوريين، لكن قضية الحاكم ستحتل صدارة جدول أعمالها على الأرجح. ويأمل ميقاتي في التوصل إلى مخرج لملف سلامة، وهو بحسب تسريبات ينوي طلب عقد جلسة لمجلس الوزراء لاتخاذ قرار بشأنه، بين تركه في منصبه كونه ليس مداناً أو متهماً حتى الآن، أو إصدار الحكومة قراراً يطلب منه التنحي عن منصبه. وفي هذا السياق، تفرض المادة 19 من قانون النقد والتسليف على الحكومة لإقالة الحاكم، إثبات أنه أخلّ بالوظيفة العامة. وترددت معلومات بأن أمام الحكومة خيارين:
الأول، استخدام ورقة شبه قانونية لاتهامه بالإخلال بوظيفته، استناداً إلى ادعاءات شركات التدقيق في عمل مصرف لبنان بأنها مُنعت من التدقيق في عمليات شركة «فوري» التي يملكها رجا سلامة، شقيق الحاكم، والتي يشتبه في أن الأخير استخدمها لاختلاس نحو 330 مليون دولار على شكل عمولات من المصارف. إذ إن الحاكم كان قد كلف شركة «سمعان غلام وشركاه» إجراء تدقيق، إلا أنه لم يزوّدها بالداتا المطلوبة، ولم يسمح لها بالاطلاع حساب «فوري»، ما دفع القضاء اللبناني إلى رفض استلام تقرير الشركة، وتم لاحقاً استدعاء صاحبها سمير غلام للاستماع إليه أمام القضاء اللبناني والفرنسي.
الثاني، صدور قرار عن مجلس الوزراء يتمنى على الحاكم التوقف عن القيام بمهامه، وتفويض صلاحياته إلى نائبه الأول وسيم منصوري، في حال تراجع ثنائي أمل وحزب الله عن رفضهما تولي الأخير لهذه المهمة.
غير أن ما نُقل عن أوساط الحاكم أنه لن يوافق على مطالبة الحكومة له بالتنحي، إذ إنه يعتبر أن الاتهامات الموجهة إليه غير صحيحة والتحقيقات لم تكتمل بعد، وأنه في حال استجاب لطلب كهذا يكون كمن أقرّ ضمناً بالذنب وهو يرفض ذلك، ونقل عن سلامة تأكيده: «أنا باق في منصبي، وباق في لبنان، ولن أغادره إلى أي مكان. ولن أتراجع أمام الضغوط، سواء أتت من السياسيين أو الإعلاميين أو حتى من الجهات القضائية».
عويدات مضطر لاستدعاء سلامة والتحقيق معه ومنعه من السفر وانتظار ملف التحقيق الفرنسي


إلى ذلك، علمت «الأخبار» أن لبنان تسلم أمس، عبر القنوات الرسمية والديبلوماسية، استنابات من القضاء الفرنسي تطالب بتبليغ شقيق الحاكم رجا سلامة ومساعدته السابقة ماريان الحويك لحضور جلسة تحقيق معهما أمام القاضية بوروزي في باريس. ولم يكن بالإمكان التثبت من الموعد. لكن اللافت أن الأمر ترافق مع قرار قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا الإطاحة بجلسة استجواب سلامة التي كانت محددة أمس، عبر الاكتفاء بردّ الدفوع الشكلية المقدمة من وكلاء سلامة من دون أن يعيّن جلسة أخرى له، لكنه حدّد جلسة لاستجواب شقيقه رجا في 15 حزيران المقبل، وربما يتزامن هذا الموعد مع موعد جلسة الاستماع لرجا سلامة في باريس، ما يتيح للأخير التذرع بذلك لعدم المثول أمام القاضية الفرنسية التي يتوقع أن تصدر بحقه مذكرة توقيف وجاهية، أو غيابية في حال تمنعه عن الحضور. فيما يتوقع أن يبادر وكيل رجا إلى تقديم الدفوع التي سيلحقها استئناف وتمييز، يمكن أن تطول لأشهر عدة.
وكان أبو سمرا رد الدفوع الشكلية المقدمة من وكلاء الحاكم ضد رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل هيلانة إسكندر كممثلة عن الدولة اللبنانية، بعد تأخير دام شهراً من دون أي تبرير. وقد صاغ الرد صباح أمس بأربعة أسطر علل فيها ردّ الدفوع لورود كتاب من وزير العدل هنري خوري يؤكد فيه صلاحية إسكندر بحضور جلسات الاستجواب كممثلة عن الدولة، علماً أن تاريخ الكتاب يعود إلى 18 نيسان الماضي.



رشوة من الحاكم لموظفيه
في وقت توقفت المصارف اللبنانية عن منح أي نوع من القروض الشخصية أو التجارية بعد 17 تشرين الأول 2019، وفي ظل تحكم المرابين بعمليات الاقتراض غير الرسمية، عُلم أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في صدد قرارات يسمح بموجبها للعاملين في المصرف المركزي بالحصول على قروض جديدة مقابل صفر فائدة أو فائدة متدنية جداً. وفي المعلومات أن القرارات تسمح لكل موظف في مصرف لبنان بالحصول على ثلاثة قروض (شخصي، تعلم وشراء سيارة) تبلغ قيمة كل منها 12 ألف دولار أميركي، على أن يتم منح القرض بالليرة اللبنانية وفق سعر الدولار الحقيقي وليس الرسمي. وقد لاقت الخطوة استحسان نقابة الموظفين التي قد تدعو إلى تحرك تضامني مع الحاكم، في وقت يفتقر كبار الموظفين في القطاع العام إلى الحد الأدنى المقبول من الراتب الشهري.