عندما شاهدت حفيدتها التي تقطن في فرنسا وسمعت صوتها للمرة الأولى عبر «الفيديو كول»، أصيبت نوفل بحالة من الصّدمة، صاحبتها موجة ضحك عارمة. لم تصدّق السيدة الثمانينية كيف استطاع جهاز بحجم كفّ اليد أن يقطع المسافات ويجمعها بحفيدتها. «كيف هيك»؟ علّقت كلّما تحرّكت حفيدتها، وتأكدت أن ما تشاهده ليست صورة جامدة وإنما فيديو حيّ «مثل المسلسلات». بعدها، عرضت عليها ابنتها أن تشتري لها جهازاً فيتسنى لها الحديث مع أولادها وأحفادها للاطمئنان عليهم والتسلية. ورغم أن نوفل بدت مستأنسة أثناء استخدامه، نفرت منه لاحقاً: «ما خرب بيوتنا غيرو». ربطته بالانحلال الأخلاقي وتفكك أواصر العائلات وارتفاع نسب الطلاق… أكثر من ذلك أبدت تخوّفها من مواقع التواصل الاجتماعي «غير الآمنة» والهواتف «المراقبة».يوماً بعد يوم، تتّسع الفجوة بين كبار السنّ من جهة، والأجهزة الرقمية التي صارت جزءاً أساسياً من حياتنا من جهة ثانية. وفيما يجد كثيرون من أبناء «العمر الثالث» الهواتف الذكية والحواسيب ومواقع التواصل الاجتماعي أشبه بالمتاهات العميقة والدهاليز السرية، فلا يدخلونها من باب صعوبة التعلّم أو انتفاء الحاجة إليها، اعتاد آخرون عليها وباتت تسليتهم الأساسية والصلة التي تربطهم بالأصدقاء المنتشرين في الخارج.

رفض قطعي
توقّف التقويم الزّمني في مقهى الخليل في برج البراجنة عند العام 1989. منذ افتتاحه، لا يزال كلّ شيء على حاله. الأقفاص الخشبية تزيّن الجدران، تودّع عصافير وتستقبل أخرى. الكراسي الخشبية المكسّرة والطاولات المهترئة ذاتها التي ورثها موسى الأربعيني عن والده. الزوايا نفسها تودّع مسنّين وتستقبل جيلاً آخر. تمضي الأيام، ويبقى الشاي أنيس الجالسين ورائحة «أرغيلة العجمي» تعبق في المكان... وما دام كبار السّن يحافظون على عادة النوم باكراً وعدم الإطالة في السهر، لم يتغيّر دوام الافتتاح والإقفال هنا.
لا يزال أحد روّاد المقهى الدائمين، سعد، عالقاً في الماضي في هندامه ونمط حياته وحنينه إلى ما فات. يقضي الرجل النحيل والطاعن في السن نحو ساعتين في المقهى متّكئاً على عصا. يتبادل أطراف الحديث مع صديقه كامل، ويلعبان «الـ 14» و«الليخة». في المنزل، حيث يعيش وحده، يقضي وقته في مشاهدة الأخبار والأفلام العربية القديمة. لا يسمع أغاني «الهشّك بشّك»، بل أم كلثوم وفيروز والأغاني القديمة. يشتعل حنيناً إلى التلفاز الكبير الذي يشبه الصندوق ويعرض الصور بالأبيض والأسود. منذ 4 سنوات، أهداه ابنه هاتفاً. سرعان ما أعاده إليه «حتى لا يزعجني أحد»، يقول بابتسامة تظهر سنّين أماميّين لا ثالت لهما في فمه. لا يرغب في منح الهاتف أي فرصة ثانية لأنه «يضيّق الخلق». يوافقه صديقه كامل الرأي، هو الآخر «لا يطيق الهواتف الذكية المعقّدة».
طريقة جلوسه، وكيفية تدخين غليونه، تكشف شخصية مصطفى جمال الدين العصبية. يضيق ابن الـ 76 عاماً ذرعاً بجدران منزله، فيقصد المقهى لساعات. «شو في بالبيت»؟ يسأل، ثم يجيب نفسه: «ما في شي». لا يحمل مصطفى هاتفاً «لا أحتاجه، ويشكّل مصروفاً ثانياً». أولاده يسكنون إلى جانبه، وعدا ذلك «عشنا طوال عمرنا من دونه». مهما استفسرت عن سبب الرفض، يكرّر: «ليس لديّ أيّ مصلحة في حيازته». يتدخل أحدهم: «معظم كبار السن عقلهم لا يستوعب التكنولوجيا»، هنا ينتفض مصطفى، ويرمي السيجارة أرضاً: «لو أعطيتني راتباً كي أحمله، لن أفعل».

حسن يحمل 4 هواتف
لكن، ليس كبار السن سواسية في موقفهم من التكنولوجيا. هناك من بنى علاقة طيبة معها ويسعى للاستفادة منها قدر الإمكان. نسأل حسن إن كان يحمل هاتفاً، فيسحب ثلاثة هواتف من محفظته، ويؤشّر إلى الرابع على الشاحن. يضع الشريحة في واحد، ويترك الثلاثة «للاحتياط». الهاتف المحمول بالنسبة إليه «أهمّ شيء في الحياة»، يستخدمه لضبط المنبّه وإجراء الاتصالات والمراسلات على واتساب، وخاصة في ما يخصّ عمله في التجارة. يحمل هاتفا منذ 25 عاماً، عندما غزا «أبو لمبة» السوق. ولا يمتلك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لأنّو «ما إلي خلق عليها»، أما الـ«تيك توك» على وجه الخصوص، فـ«أتصفّحه بين الحين والآخر، لكنني كلما دققت فيه أشعر بانزعاج في الرؤية».
يقسّم علي وقته الطويل بين مقهى الخليل ومقهى صليبا في البربور، وما بينهما «بتكّس»، أي يعمل على سيارة الأجرة. يحمل هاتفاً أينما ذهب لـ«التواصل مع زوجتي في المنزل وأولادي في كندا وألمانيا والسويد». مساءً، يتصل بأصدقائه في السويد ويتحدثون لساعات، «هم أيضا يشعرون بالملل مثلي». يقلّب في الفايسبوك ويشاهد مقاطع الفيديو فـ«تصعب عليّ الحياة عندما أرى أولاداً يأكلون من القمامة». إذا تعطّل الهاتف، يصلحه فوراً، «من دونه أشعر بأني ضائع».
لم يتعلّم علي استخدام الهاتف بسلاسة، عانى صعوبات كثيرة في بادئ الأمر، وهو حتى الآن لا يجيد استخدام كثير من التطبيقات، مع ذلك «يذلّل عقباتي». كيف يحصل ذلك؟ يجيب: «الخبر يأتيني سريعاً على الهاتف، والتواصل سهل مع أيّ كان، حتى التعازي صارت على الهاتف». هو ممتنّ للتكنولوجيا، إلا أن صوراً من الستينيات تلمع في رأسه فيترحّم على تلك الأيام «عندما اشترت سيدة تلفازاً، واشترطت للسماح لنا بمشاهدة الأفلام الأميركية البوليسية، شراء بزر بفرنك بالحد الأدنى من دكانها».

«نريد أن نلحق التطوّر»
يجتمع أربعة مسنّين حول طاولة تحمل منافض للدخان، وتحمل أياديهم أوراق الشدة. «ليس لدينا عمل، لذا نأتي إلى المقهى لنمضي 4 ساعات قبل الظهر و4 ساعات بعد الظهر»، يقول أحدهم من دون أن يسحب نظره عن الأوراق. تسجّل النقاط بالطبشور على لوح خشبي. يشدّ انتباهك هاتف حديث على الطاولة لا ينسجم مع الجو القديم هنا. تسأل إن كان البقية يحملون هواتف، فيأتيك الجواب من محمد: «كلنا هنا نحمل هاتفاً، ومنذ زمن طويل»، ويضيف: «هاتفي يرافقني مثل خيالي، وإذا نسيتو مصيبة». لماذا؟ «نريد أن نلحق التطوّر، لذا أستخدم جميع التطبيقات من فايسبوك وإنستاغرام وتويتر وواتساب...»، لا ينشر عليه بقدر ما يتصفّحه، ولا «يدمن» استخدامه كما يفعل أحفاده، «نصف ساعة يومياً تكفيني».
يفصح محمد عن صعوبة تعلّم أي تكنولوجيا جديدة، ما يستدعي الاستعانة بحفيده ابن الـ 13 عاماً. ولا يزعجه ذلك، همّه «ملاحقة التطوّر فقط»، لذا يستخدم الحاسوب أيضاً. ويميّز نفسه عن غيره من المسنّين الذين يرفضون قطعاً استخدام التكنولوجيا: «أنا متعلّم، درست الرياضيات وأتحدّث ثلاث لغات وعملت لسنوات في إحدى السفارات. غير المتعلمين هم من يجدون صعوبة في تعلم ما هو جديد، ومهما حاولوا هناك من يدفعهم إلى الوراء».