بعد أيّام من الاحتفال بعيد الفطر، قبل نحو شهر تقريباً، بدأت ترتفع أصوات كثيرة في طرابلس والميناء تشكو الفوضى والتعدّيات التي يتعرّض لها الكورنيش البحري. فقد حوّل عدد من المواطنين المنتزه البحري الوحيد من نوعه في الشّمال، بشكل فوضوي ومشوّه، إلى أملاك خاصّة بهم، فأفقدوه هويته، ورونقه، والهدف الذي أنشئ من أجله مطلع ثمانينيات القرن الماضي، في أن يكون مساحة للفرح والتنزّه ورياضة المشي والركض أو ركوب الدّراجات الهوائية، وتنشّق هواء البحر المنعش، وجعلوه أقرب ما يكون إلى سوق شعبية.الكورنيش، الذي يبلغ طوله نحو 7 كيلومترات، ويمتدّ من مرفأ الصّيادين بالقرب من قصر الرئيس نجيب ميقاتي، وصولاً إلى الملعب الأولمبي عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس، خضع قبل سنوات لأعمال تأهيل وتجميل بإشراف رئيس بلدية الميناء السّابق عبد القادر علم الدين. الأخير كان صاحب فكرة إنشاء الكورنيش قبل أكثر من 4 عقود، لكنّ حلّ بلدية الميناء عام 2019، وجعلها ضمن مسؤوليات أمين سرّ محافظة الشّمال إيمان الرافعي، ثم اندلاع شرارة الحَراك الشّعبي في 17 تشرين الأول من ذلك العام، أوقفت أعمال إعادة التأهيل كليّاً.

استباحة الكورنيش

لم تقف التداعيات السّلبية على الكورنيش البحري على ذلك فقط، فالعام الماضي شهد قيام مجهولين بسرقة "درابزين" الكورنيش وبيعه خردة، وسرقة وتخريب الكراسي الخشبية التي وُضعت على طول الكورنيش لاستخدامها من قبل روّاده، قبل أن يشهد الكورنيش في السّنوات التالية استباحة له بكلّ معنى الكلمة من قبل مواطنين أقدموا على وضع أكشاكهم وبسطاتهم وخيّمهم وطاولاتهم وكراسيهم على طول الكورنيش، بلا أيّ ترخيص وبشكل فوضوي، فارضين على كلّ من يجلس عليها مبلغاً مالياً معيناً، بمقابل "تطفيشهم" كلّ مواطن يحاول الاستغناء عنهم باستقدامه كرسيه وطاولته مع عائلته إلى الكورنيش للتنزّه قليلاً.
خلال عطلة عيد الفطر ارتفعت الفوضى ومشاهد التسيّب على نحو واسع، فحضرت أيضاً ألعاب الهواء الطلق الشّعبية على الكورنيش بمختلف أشكالها، فضلاً عن البسطات والمقاهي الشّعبية، وقد استغلّ أصحابها غضّ البلدية النظر عنهم في المناسبة فاستباحوا الكورنيش من أقصاه إلى أقصاه. لكن أصواتاً اعتراضية كثيرة ارتفعت من قبل مواطنين ومن أصحاب مطاعم ومقاهٍ على الضفّة الأخرى من الكورنيش، ما دفع كثيرين للعزوف عن ارتياد الكورنيش بعدما كانوا يفعلون ذلك يومياً. يشكو أحدهم من أن "المواطنين الذين يرتادون المقاهي العشوائية على طول الكورنيش، يسألون أصحابها أين سيقضون حاجتهم، فيشيرون إليهم إما بالقيام بذلك خلف أحد قوارب الصيد الراسية على شاطئ البحر، أو الاستعانة بحمامات أحد المطاعم المقابلة!".

إزالة المخالفات
هذه المخالفات وغيرها دفعت المعنيين في بلدية الميناء وقوى الأمن الداخلي إلى اتخاذ قرار بإزالة البسطات والمقاهي والمخالفات عن الكورنيش بأكمله، وهو قرار أبلغوه في نهاية الأسبوع الماضي إلى جميع المعنيين به، الذين حاولوا الضغط لإلغاء القرار أو تأجيله، من خلال اعتصام نفّذوه أمام قصر ميقاتي المحاذي للكورنيش، قطعوا خلاله الطريق بإطارات السيارات المشتعلة، متهمين ميقاتي وبلدية الميناء بقطع أرزاقهم بعدما "تلقينا تهديدات برمينا مع أكشاكنا وبسطاتنا في مياه البحر إذا واجهنا تنفيذ القرار" على حدّ قول أحدهم لـ"الأخبار"، وسؤال آخرين لميقاتي: "ألم تقل إنّك لن تجعل أحداً يجوع في طرابلس. نحن جعنا وأولادنا سيباتون غداً بلا طعام".
في مقابل ذلك، أوضحت مصادر مطلعة في بلدية الميناء لـ"الأخبار" أنّ "قرار إزالة التعديات والإنشاءات الثابتة على الكورنيش البحري جاءت نتيجة تزايدها في فترة شهر رمضان المبارك والأعياد، حيث نشأت المقاهي والملاهي وغيرها، منافسة المحال والمتاجر والمقاهي القانونية، وهذا الأمر لم يعد مقبولاً، لأنّ هذه الإنشاءات أصبحت تعيق حركة المشاة والرّاغبين بممارسة هواية الرياضة، خصوصاً أنّ الكورنيش يعتبر رئة أهالي الشّمال، والمتنفس الوحيد لهم، إضافة إلى ذلك تزايد انتشار الفوضى وعدم الانضباط والتعدّي على الأملاك العامة"، كاشفة أنّه "لن نمنع أصحاب البسطات من استخدام عربات أو بسطات متنقلة، شرط عدم تثبيتها في مكان محدد أو مساحة معينه على الكورنيش".
غير أن هذه المشكلة القديمة ـ الجديدة بين أصحاب البسطات والمخالفات والمقاهي الشعبية مع بلدية الميناء وأصحاب المقاهي والمطاعم الأخرى المقابلة تتكرّر كلّ عام أكثر من مرّة، وتبقى بلا معالجة أو تنظيم، ما يجعلها تتجدّد سنوياً بسبب الوضع المعيشي الضاغط الذي يزيد منها، وتتجدّد معها عمليات الكرّ والفرّ بين هؤلاء وبين القوى الأمنية وشرطة البلدية بشكل يشبه عمليات المطاردة بين القط والفأر.