أي قعر يمكن هذه الدولة النزول إليه أخلاقياً وسياسياً ومهنياً؟ما يجري في جريمة اغتيال الشهيد غازي عز الدين، الذي قتل تحت التعذيب في سجون دولة الإمارات العربية، لا يبشر بخير. إذ تبدو الدولة، بقضّها وقضيضها، خائفة وخانعة ووضيعة، في مقابل وحوش تواصل جنونها وإجرامها في حق الموقوفين وعلى أهاليهم، وفي ترهيب أهل الشهيد نفسه. ويساعدهم في ذلك أن في لبنان من يعمل في خدمتهم، عبر ما يسمى «الجهود الرسمية» لمعالجة الملف، وهي «معالجة» تقتصر على محاولات مسؤولين كبار في الدولة الضغط لوقف أي تحرك شعبي تحت شعار «وقف التصعيد الذي يضرّ أكثر مما يخدم». علماً أن هذا الشعار لم يجد نفعاً على مدى سنوات في وقف الإجرام الإماراتي، منذ بدأت سلطات هذه الدولة حملتها العشوائية ضد لبنانيين يقيمون فوق أراضيها، فقط لأنهم ينتمون إلى طائفة معينة، وبحجة أنهم يعملون مع حزب الله أو يقدمون له الدعم المالي. وعلى مدى السنوات نفسها، قابلت الدولة مطالب أهالي الموقوفين ببرودة، قبل أن يتعهد الرئيس نبيه بري معالجة الأمر والسفر إلى أبو ظبي، وهو ما لم يجد نفعاً أيضاً. رغم ذلك، بقي خطاب «وقف التصعيد» مسيطراً على المشهد السياسي والشعبي. وبقيت السلطات الرسمية تبرّر تقاعسها بالحرص على عدم إزعاج الإمارات، تجنّباً لترحيل اللبنانيين العاملين فيها، فشرعنت استغلال حاجتهم، وحوّلت مواطنيها من جاليات إلى رهائن في الإمارات والسعودية وغيرهما من ممالك الموت غير الآمنة، بدل السعي إلى البحث عن أسواقٍ بديلة للكادرات اللبنانية في دول عربية صديقة.
في المقابل، يبدو واضحاً أن هذه «الطريقة» اللبنانية في «المعالجة» لم تردع حكام أبو ظبي ودبي عن الإيغال في الإجرام، مطمئنين إلى أنهم سيبقون خارج المساءلة، وإلى أن غالبية وسائل الإعلام اللبنانية التي اشتروا صمتها لن ترفع أصواتها في وجوههم، وإلى أن المسؤولين اللبنانيين لا يمتلكون شجاعة المواجهة المباشرة معهم. لا بل وصل الأمر حدّ الطلب من مسؤولين بارزين في الدولة «التوقف عن السعي لأن الأمر يتعلق بالسيادة الإماراتية والأمن القومي».

لدى عودة 8 موقوفين في الامارات بعد إطلاقهم في شباط الماضي (هيثم الموسوي)

على هذه القاعدة، يجري التعامل مع جريمة قتل عز الدين. فبعدما رفض وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد الرد على اتصال وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، الجمعة الماضي، أبلغه في اتصال السبت أن ما حصل «حادث مؤسف»، زاعماً أن عز الدين «كان ملاحقاً في قضايا مالية، وتوفي في السجن جراء نوبة قلبية». علماً أن سلطات الإمارات نشرت عناصر أمنية قرب أماكن سكن عائلة عز الدين وأقربائه، وضغطت على زوجته للاتصال بالسفير اللبناني فؤاد دندن وإبلاغه بأن الأمر ليس كما يجري الحديث عنه في لبنان، وأن مراسم الدفن تمت بناء على طلب العائلة وبموافقتها. وعندما طلب دندن من العائلة تزويده برسالة واضحة في هذا الشأن، كان الأمن الإماراتي حاضراً فألزم زوجة الشهيد رشا حمادة وشقيقه بسام عز الدين بكتابة رسالة بخط اليد، بلغة ركيكة وبأخطاء كثيرة، وتوقيعها وتسليمها إلى السفير اللبناني، تفيد بأن عز الدين توفي بأزمة قلبية، وأن قرار دفنه بالإمارات تم بموافقة العائلة وحضورها. وطلبت العائلة في الرسالة ممن «يقومون بتداول إشاعات لا أساس لها من الصحة»، التوقف عن ذلك واحترام «خصوصية المرحوم وأفراد عائلته»، من دون أن تنسى توجيه «الشكر والاحترام والتقدير لدولة الإمارات العربية المتحدة».
السفير اللبناني لم يجرؤ على طلب عرض الجثة على طبيب شرعي أو تشريحها لمعرفة سبب الوفاة، إلا أنه في ذلك التزم بالتعليمات التي وردته من بيروت، والتي يقول الوزير عبدالله بو حبيب إنه يتواصل في شانها مع الرئيسين بري ونجيب ميقاتي ومع عائلة الشهيد.
وفي بيروت لم تكن الأمور أفضل. فما إن فتح أهل الشهيد العزاء في قرية باريش الجنوبية حتى بدأت الضغوط لإقناعهم بعدم اللجوء إلى أي تحرك أو تصعيد. والمفارقة أن القاضي حسن الشامي الذي تربطه صداقة شخصية مع الراحل وأهله، هو من قاد عملية الضغوط، ولمّح إلى أن «ما يجري في الإعلام (سمى «الأخبار» تحديداً) ليس في مصلحتكم، والأفضل ترك الأمر للمعالجات بعيداً من الأضواء». علماً أن الشامي نفسه سبق أن تولى ملفات من هذا النوع، وكان دائماً يعد بنتائج في حال كان العمل سرياً، لكن لم يسبق له أن وصل إلى نتيجة، لا في ملف المفقودين ولا في ملف الإمام موسى الصدر ورفيقيه. وجاء تحرك الشامي بعد تسجيل ردود فعل لأقرباء الشهيد في العزاء، وارتفاع أصوات تطالب الرئيس بري وحزب الله بممارسة ضغوط على الرئيس ميقاتي لضمان سلامة بقية المفقودين وإطلاقهم وإعادة جثمان الشهيد لدفنه في بلدته.
من كلف القاضي حسن الشامي منع العائلات من التحرك وطلب التكتم الإعلامي وعدم التظاهر؟


الضغوط التي يشارك فيها إلى جانب الشامي مسؤولون وجهات أخرى، أدت إلى انقسام في صفوف العائلة حيال الدعوة إلى تحرك شعبي قبل ظهر اليوم أمام مقر وزارة الخارجية وسط بيروت. فصدرت ليل أمس بيانات عدة، أحدها نُسب إلى عائلة الراحل جاء فيه أنها غير معنية بالدعوة ولن تشارك فيها. فيما قال المتحدث باسم أهالي الموقوفين في الإمارات عفيف شومان إن التحرك يأتي احتجاجاً على «عدم اهتمام السلطة بالقضية عموماً، وبمقتل عزّ الدين على وجه الخصوص». وأضاف: «ما تريده العائلات واضح وبديهي: استعادة جثمان عزّ الدين، وعرضه على طبيبٍ شرعي يكشف سبب الوفاة، ثم دفنه في بلدتِهِ. يقينهم بأنّ أبناءهم غير متورطين في أعمالٍ تهدّد أمن الإمارات، يُترجم في طلبهم من السلطات اللبنانية السعي لتعيين محامين لبنانيين على نفقةِ العائلات، ليزوروا الإمارات ويطلعوا على محاضر التحقيق مع غازي وسائر الموقوفين الجدد والقدامى الصادرة بحقّهم أحكام بتهم تمويل حزب الله والتخطيط لأعمال إرهابية في الإمارات». وقال شومان: «إن ثبت تورّطهم فليبقوا في سجون الإمارات وسنكّف عن المطالبة بهم».
من جهة أخرى، أكّدت مصادر متابعة أنها تلقّت معلومات عن أن ظروفاً سيئة لبقية الموقوفين اللبنانيين. وتفيد معلومات «الأخبار» عن إدخال بعضهم إلى أقسام العناية المشددة، إضافة إلى معلومات عن مشاركة ضباط من الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية (الموساد) في التحقيق مع الموقوفين.
معروف، أنه منذ عام 2016، تطرق عائلات الموقوفين أبواب المسؤولين التي أُقفلت في وجوههم. وقبل ثلاثة أشهر اعتصمت اللجنة أمام «الخارجية» وطلبت مقابلة بو حبيب الذي لم يلبّ الطلب، وسمح لهم بمقابلة الأمين العام للوزارة السفير هاني شميطلي الذي وعدهم بالعودة إليهم لكنه لم يفعل. وتكرر السيناريو نفسه مع رئيس الحكومة. الذي لم يتمكّن الأهالي من مهاتفته و«كانت خطوط مستشاريه والسراي تقفل في وجهنا». أما لجهة الرئيس بري، فقد أرسل موفداً عنه ليطمئن عائلة عز الدين في باريش، وحدد موعداً للجنة الأهالي غداً.