عاش حرّاً ورحل حرّاً، بعيداً من الشهرة والمال والمناصب والسلطة. وكان اللقب الأحبّ إلى قلبه: المناضل، بعدما اختار لحياته دور المثقف-المناضل، في صداقة جميلة مع الشغف والمرح والعمل ومواجهة الظلم يوماً بيوم.وليد صلَيبي، غيّبه الموت في الثالث من شهر أيار الحالي، عن عمر 67 سنة، بعد صراع شجاع مع المرض لعشرين سنة.

يلقّبه عارفوه بالشخصيّة التي لا تتكرّر. هو الذي لم يحبّ الألقاب يوماً، مع ذلك نثر عليه البعض، أثناء التعازي كما من قبل بالطبع، عناوين من مثل: "أيقونة اللاعنف"، "غاندي لبنان"، "قدوة سبّاقة"، "معلّم في النضال السياسي اللاعنفي"، "شُعلة استثنائيّة"، "الجميل المرح"، وسواها.
رائد التغيير الاستراتيجي اللاعنفي في لبنان والعالم العربي عن حقّ، أضاف إلى هذه الفلسفة مفاهيم ومنهجيّة تفكير ووسائل في العصيان المنظّم باتت في قاموس العمل المدني وتُرجِم بعضها بلغات أجنبيّة.
وهو أيضاً من روّاد تجديد المجتمع المدني في لبنان منذ مطلع الثمانينيات، وقد عُرِف بتأثيره في أجيال على مدى أربعة عقود بإبداعاته الفكرية وأسلوبه الحرّ وشخصيّته المرحة.
مسيرته الفكريّة والنضاليّة عاشها مع رفيقة العمر، أوغاريت يونان، التي التقاها في عام 1983 ليستمرّا معاً على مدى 40 سنة، وبات اسمهما كأنّه اسم وكنية لشخص واحد، "وليد أوغاريت" أو "أوغاريت وليد"! وقد توّجا إنجازاتهما عام 2014 بتأسيس "جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان AUNOHR" الأولى من نوعها محلياً وعربياً والفريدة عالمياً. وآخر ما أفرحه في هذا الإطار، نيله مع يونان في عام 2022 جائزة غاندي العالميّة.
في البطاقة التذكارية التي وُزِّعت في مراسم وداعه، كُتِب أنّ تولستوي كان أوّل من أثّر في مساره اللاعنفي الثوري، وفي المعنى المرهف للجرأة في الحياة الشخصية، وكان ما زال تلميذاً في المرحلة المتوسّطة. ومع تولستوي، شكسبير، جبران، ماركس، فروم، رايش، غاندي، براسينس، وعاصي الرحباني، أثّروا في فلسفته للحرّية والحبّ والعدالة.

الوداع ببساطة
هذا ما اختاره وكتبه في وصيّته، "الوداع ببساطة". وهكذا كان، بعناية مؤثّرة في كلّ تفصيل من شريكته الدكتورة يونان. واللافت، الخروج عن التقاليد والطقوس الطائفية، من انتقاء الكلمات في ورقة النعي وإخراجها الفنّي الذي يشبه كلّ شيء إلا الوفيات، والعبارة المختارة في مستهلّها وهي من أقوال الراحل "نحن الحبّ والحياة ولا بدّ للقوانين أن تُشبهنا"، إلى المراسم والتعازي وطريقة الغياب الأخير.
موكب متواضع وصامت، سيراً على الأقدام، جمع أحبّة وأصدقاء وشباباً وطلاباً متأثرين به، إلى أهل الحي ومَن خدمه وسانده في فترة مرضه، حيث حملوا، رجالاً ونساءً، نعشاً زهيداً رقد فيه وليد صلَيبي مغطى بالزهور الملوّنة، من المستشفى إلى منزله على بعد أمتار، رافقوه في مشواره الأخير في الهواء الطلق، مروراً من أمام المنزل العائلي الذي وُلِد فيه، رشّوا الأرزّ والزهور عليه، ثمّ تحلّقوا حوله في غرفة صغيرة في طابقٍ أرضي، بكَوه وعبّر له البعض عن الأثر المفصلي في حياتهم مذ التقوه... بعدها، لقاء تعازٍ في العاصمة في مكان لا صبغة من أيّ نوعٍ له، تحوّل مدخله بجماليّة إلى حديقة ألوان كالحياة ضمّت لوحات صورٍ للراحل من مختلف مراحل حياته، ورافقتها موسيقى رقيقة عزفها شباب على الكلارينيت والناي والبيانو تحيّة له... بدون دعوات رسميّة ولا إعلام، تمّت التعازي كما أرادها هو، بمثابة لقاء ودّي جامع من سائر المناطق والأعمار. وفي الختام بطاقة لذِكراه تخبر في نبذة مختصرة عن أبرز محطات حياته وإنجازاته.

انتصار اللاعنف
ارتبط اسم وليد صلَيبي بالعمال والمعلمين والشباب والمعوقين والأفكار الجذريّة للعلاقات الجندريّة وتحركات الشارع والحملات المدنية المبتكرة والمقاومة اللاعنفية وسلسلة ترجمات اللاعنف إلى العربية وقانون لبناني للأحوال الشخصيّة المدنيّة وإلغاء عقوبة الإعدام وثورة البندورة وأوّل إخبار بحقّ سبعة زعماء طائفيين والدَين غير المشروع...
عندما يتذكّره الشباب والنشطاء والنقابيّون والمثقفون، هنا في لبنان كما في العديد من البلدان العربية، يردّدون مفاهيم وعناوين مبتكرة أدخلها في التراث النضالي وأصدر كتابات حولها، من بينها: "نعم للمقاومة لا للعنف"، "عقوبة الإعدام تقتل – جريمتان لا تصنعان عدالة"، "التحرير اللاعنفي المعكوس – نموذج لفلسطين"، "الربح الإضافي على حساب الأجور"، "صندوق النقد الدولي - الخيانة الوطنيّة"...
بين الفيزياء والهندسة المدنيّة والعلوم الاجتماعيّة والاقتصاد السياسي، هذه العلوم التي درسها وحصل على شهادات عليا فيها، استخلص أنّ الحبّ والموسيقى هما روح الحياة، وأنّ الفرق الذي يمكن لأحد أن يُحدثه يوماً هو حين يواجه الظلم، فالظالم يستحقّ أن لا نتوقف عن مواجهته إلى أن ننتصر... "نحن لسنا في عالم انتصر فيه العنف، نحن في عالم لم ينتصر فيه اللاعنف كفاية بعد"، من أقوال صلَيبي في سنواته الأخيرة.