لا يكتفي العدو الإسرائيلي بالتمادي في ارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، بل يُحوّل -على ما يبدو- فلسطين المحتلّة إلى مأوى للفارّين من وجه العدالة. من بين هؤلاء الرئيس السابق لوكالة التحقيقات الجنائية في المكسيك توماس زيرون دي لوسيو - Tomás Zerón de Lucio، المتّهم بإخفاء معلومات في قضية خطف وقتل 43 طالباً جامعياً عام 2014. يقيم زيرون حالياً في شقة سكنية فخمة في تل أبيب، وترفض سلطات الاحتلال تنفيذ مذكّرة توقيف دولية صدرت عن الإنتربول بحقه. في مقابلة أجرتها معه صحيفة إسرائيلية في نيسان الفائت، أشارت إلى أن زيرون وجد «وطناً جديداً»، وأكّدت أن الإسرائيليين لن يسلّموه إلى القضاء المكسيكي.كيف وصل زيرون إلى تل أبيب وما هي طبيعة صلاته برجل الأعمال الإسرائيلي دايفد أفيتال والاستخبارات الإسرائيلية، وما علاقة التجسس والتنصّت الإسرائيليَّيْن بهذه القضية؟


اختُطف 43 طالباً من كلية تدريب المعلمين الريفيّة في مدينة إيغوالا بولاية غيريرو في المكسيك في أيلول 2014 خلال مشاركتهم في تظاهرة ضد السياسة الاقتصادية للحكومة المكسيكية آنذاك. وتبيّن لاحقاً أن الشرطة المحلية كانت قد ألقت القبض عليهم ولم يُعرف شيء عن مصيرهم بعد ذلك، ولم يُعثر على جثثهم أو أي إثبات على أنهم على قيد الحياة. وقد وُجدت أكياس في نهر سان خوان تحتوي على بقايا بشرية قيل إنها تعود للطلاب المفقودين.
تولّى رئيس وكالة التحقيقات الجنائية في المكسيك (AIC) يومها توماس زيرون التحقيق في القضية. وفي 27 كانون الثاني 2015 عقد مؤتمراً صحافياً للكشف عمّا زعم أنه «الحقيقة التاريخية» للقضية (La verdad histórica). قال زيرون إن عناصر فاسدين في الشرطة يعملون مع جماعة إجرامية محلية يُطلق عليها اسم «غيريروس يونيدوس» (Guerreros Unidos)، قبضوا على الطلاب الـ 43 في إيغوالا وسلّموهم إلى أفراد العصابة الذين أخذوهم إلى مكبّ نفايات في منطقة كوكولا حيث أطلقوا النار عليهم. ثم حملوا الجثث إلى أسفل جبل قمامة يبلغ ارتفاعه 40 متراً وأحرقوها حتى تحوّلت إلى بقايا عظام ورماد، وبعدها نقلوا تلك البقايا ورموها في نهر سان خوان. وبرّأ زيرون الحكومة المكسيكية من أي مسؤولية بشأن هذه المجزرة.

صور الطلاب الـ43 الذين خطفوا وقتلوا في المكسيك عام 2014

لكن أثير بعد ذلك عدد من الأسئلة والشكوك بشأن «الحقيقة التاريخية» لاختفاء الطلاب، ولدى التوسّع في التحقيق تبيّن لفريق تحقيق مؤلّف من خمسة خبراء مستقلين (Grupo Interdisciplinario de Expertos y Expertas Independientes GIEI) أن السلطات المكسيكية زوّرت الحقائق، ويُحتمل أن يكون زيرون نفسه هو الذي وضع الأدلة في نهر سان خوان. وأكّد تقرير الخبراء أن المحققين المكسيكيين قاموا بتعذيب بعض الشهود في القضية بشكل منهجي لإجبارهم على دعم رواية ملفّقة من الأحداث، وزوّروا الوثائق والمكالمات الهاتفية. النتائج التي توصل إليها فريق الخبراء GIEI أثارت القلق ليس فقط لأنها تُظهر ما يسمّيه أحد الخبراء «صناعة كذبة من أعلى المستويات» في قضية اختفاء الطلاب، ولكن أيضاً في ضوء الدور المركزي والمهيمن بشكل متزايد على القوات المسلّحة المكسيكية. تجدر الإشارة هنا إلى أن القوات العسكرية المتورطة في قضية اختفاء الطلاب تشمل قوات البحرية المكسيكية المعروفة بتعاونها الوثيق وتنسيقها مع الوكالات الفدرالية الأميركية في عمليات مكافحة الجريمة في سياق «الحرب على المخدرات».
وضع خبير الحرائق خوسيه توريرو تقريراً يشكّك في مزاعم زيرون بأن جثث الطلاب قد أُحرقت في مكبّ للقمامة. وأوضح توريرو أن البقايا البشرية التي عُثر عليها عام 2020 تبعد لأكثر من كيلومتر عن مكبّ القمامة الذي ورد في تقرير زيرون. كما أُثيرت شكوك بشأن أخلاقيات رئيس وكالة التحقيقات الجنائية السابق أثناء التحقيق، إذ نُشر مقطع فيديو يظهر فيه وهو يهدّد أحد الموقوفين برميه من مروحية، وفي مقطع آخر يُهدّد آخرين بالقتل بشكل مباشر.
شُكّلت لجنة تحقيق دولية بعد تشكيك حكومة الرئيس المكسيكي الحالي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور في استنتاجات زيرون.
وفي عام 2019 فرّ توماس زيرون إلى كندا خشية القبض عليه. لكن يبدو أن السلطات الكندية لم ترضَ بحمايته من الملاحقة القضائية المكسيكية فانتقل سرّاً في أيلول من العام نفسه إلى فلسطين المحتلّة حيث لديه، كما تبيّن لاحقاً، أصدقاء وشركاء.
في كانون الأول 2020، نُشرت صورة لزيرون في الصحافة المكسيكية مبتسماً وزُعم أنه صُوِّر في «مخبئه» في فلسطين المحتلّة. وفي كانون الثاني 2021، ورد في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن المكسيك تواصلت مع «إسرائيل» وقدّمت طلباً لتسليمه للاشتباه بتورّطه في تضليل التحقيق في اختطاف وقتل 43 طالباً «واختلاس 50 مليون دولار أميركي».

مقابلة «يديعوت أحرونوت»
نشر ملحق صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية «سبعة أيام» في مطلع شهر نيسان الفائت مقابلة حصرية أجرتها مع توماس زيرون، المتّهم بعرقلة التحقيق في قضية اختفاء 43 طالباً عام 2014. وقد صدرت بحقه مذكرة توقيف دولية عن الإنتربول إذ أصدر إشعاراً أحمر بشأنه، بينما تعدّه الحكومة المكسيكية فارّاً من وجه العدالة. لكنّ سلطات العدو الإسرائيلي تمتنع عن تسليمه وملاحقته، لا بل تؤمّن له ملاذاً آمناً للإفلات من العقاب. ولا عجب في أن كيان العدو الذي أفلت من كل محاولات محاسبته قضائياً، بات يشكل ملاذاً لأمثاله المجرمين.
سعى زيرون، خلال المقابلة مع الصحيفة الإسرائيلية، إلى تبرئة نفسه وادّعى أن التهم الموجهة إليه هي جزء من حملة اضطهاد سياسي يتعرّض لها بسبب مواقفه المعارضة للرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور.

انقر على الصورة لتكبيرها

يبدأ المقال الإسرائيلي بوصف لقاء جرى في تل أبيب بين زيرون وأليخاندرو إنسيناس، وكيل المكسيك لحقوق الإنسان الذي أشرف على جهود الحكومة الجديدة لحلّ القضية منذ كانون الأول 2018. وذكر المقال بوقاحة التجاوز الواضح لأبسط المعايير الأخلاقية، أنه تم تسجيل ما دار خلال اللقاء، سرّاً من دون علم إنسيناس. وجاء في نصّ المقال: «حوالي العاشرة من صباح يوم 16 شباط 2022 وصل فريق مكوّن من 3 خبراء في المخابرات والمراقبة السرية إلى مطعم يوناني شهير في شمال تل أبيب، جلسوا وطلبوا الطعام لكنهم كانوا -في الواقع- يبحثون عن أفضل مكان في المطعم حيث يمكنهم تثبيت الكاميرات والميكروفونات» ليتمكنوا لاحقاً من تسجيل اللقاء.
حاول إنسيناس خلال اللقاء إقناع زيرون بالمساعدة في حل القضية، وأكّد له، بحسب مزاعم الصحيفة الإسرائيلية، أن الرئيس لوبيز أوبرادور يمكن أن يمنع سجنه مقابل تقديمه معلومات حول ما حدث فعلاً للأطفال عام 2014. سخِر زيرون من كلام إنسيناس وقال بكل ثقة، وكأنه حصل على ضمانات من العدو الإسرائيلي، إنه سيحظى بحمايته في كل الأحوال. ثم أضاف حول إنسيناس: «قد يكون ساذجاً للغاية أو ربما يائساً إذا كان يعتقد أنه يستطيع إقناعي بهذه الوعود وبهذه الكلمات للعودة إلى حيث تعمل ضدّي حملة اضطهاد سياسي قائمة على أكاذيب». انتقد الرئيس المكسيكي أوبرادور الكيان الإسرائيلي علناً في أيلول 2020 لرفضه تسليم زيرون إلى القضاء المكسيكي. وقال إنه «يجب على إسرائيل ألّا تحمي مسؤولاً مكسيكياً سابقاً يعتقد أنه يقيم هناك»، مضيفاً أن «إسرائيل» قد أُبلغت بأمر اعتقال ضد هذا الشخص.
سردت المقابلة الإسرائيلية سيرة زيرون منذ طفولته وذكرت تفاصيل من أيام الدراسة. وكانت لافتةً إشارتُها إلى أن بداية الحياة المهنية لزيرون، الذي أصبح في ما بعد مدير وكالة التحقيقات الجنائية في المكسيك، كانت في مجال الأعمال التجارية حيث كان المستورد الذي جلب إلى المكسيك ماركة الأزياء الفرنسية «لاكوست» و«بسبب تراجع أعماله وجد زيرون طريقه للعمل في الشرطة الفدرالية المكسيكية» عام 2007.

بداية العلاقة بالإسرائيليين
خلال فترة تدريبه في المخابرات تعرّف زيرون إلى الكيان الإسرائيلي لأول مرة. وزار فلسطين المحتلّة عام 2008 حيث شارك في دورة عسكرية ودورة استخبارات.
أُعجب زيرون بالمهارات الاستخبارية الإسرائيلية، وبعد تولّيه منصب رئيس وكالة التحقيقات أصبح الداعم الأساسي لشراء برنامج التجسس الإسرائيلي «بيغاسوس» (Pegasus) الذي استُخدم للتجسس ليس فقط على المجرمين ولكن أيضاً على صحافيين ومحامين ونشطاء حقوق الإنسان في المكسيك.
استُخدم برنامج «بيغاسوس» في الحرب ضد عصابات المخدرات، كما في مراقبة نشطاء حقوق الإنسان وشخصيات معارضة سياسياً وأهالي الطلاب الذين فُقدوا عام 2014 في المكسيك


وقد ورد الآتي في «يديعوت أحرونوت»: «لقد تأثر زيرون كثيراً بالتقنيات التي شاهدها خلال تدريبه في «إسرائيل» (..) وخلال الفترة التي خدم فيها على مستوى رفيع في المخابرات المكسيكية وإنفاذ القانون، وقّع سلسلة من العقود مع شركات إسرائيلية لشراء أنظمة مراقبة وقرصنة لوكالات الاستخبارات المكسيكية بما في ذلك برنامج «بيغاسوس» التابع لشركة إن إس أو - NSO Group، لاختراق الهواتف». وتابع المقال، إن «هذا البرنامج كان مفيداً للغاية في الحرب ضد عصابات المخدرات، لكنه استُخدم أيضاً لمراقبة نشطاء حقوق الإنسان وشخصيات معارضة سياسياً، وأهالي الطلاب الذين فُقدوا عام 2014».

نجم الروك في القضاء المكسيكي
وصفت «يديعوت أحرونوت» زيرون بأنه «نجم الروك في القضاء المكسيكي» بعد تمكّن القضاء المكسيكي من القبض على تاجر المخدرات وزعيم كارتل «سينالوا» خواكين غوزمان لويرا «إل تشابو» في 22 شباط 2014 قبل اختفاء الطلاب الـ 43. ويدّعي زيرون أن برنامج التجسّس الإسرائيلي «بيغاسوس» ساهم بشكل حاسم في تلك العملية. علماً أنه بين عامَي 2014 و2017 استُخدم البرنامج للتجسس على نحو 15000 شخص، في خرق فاضح لأبسط الحقوق.
انطلاقاً من ذلك، تتباهى تل أبيب بعلاقتها بزيرون ويُستبعد أن تجري أي صحيفة إسرائيلية مقابلة مع زيرون وتنشرها من دون موافقة ومباركة الاستخبارات الإسرائيلية. على أيّ حال، المقابلة التي نُشرت في «يديعوت أحرونوت» لم تكن محاولة زيرون الأولى لتنظيف صورته بعد فراره من المكسيك. ففي 3 حزيران 2020، أي بعد نحو ثلاثة أشهر على صدور القرار الاتّهامي بحقه عن القضاء المكسيكي، نُشر مقال على موقع «ياهو» الإلكتروني بعنوان: «بطل المكسيك المضطَهد»، يصف توماس زيرون بأنه «ضابط شجاع لديه سجلّ مشرّف في تطبيق القانون، ومستهدف ظلماً من قِبل حكومة فاسدة». لكن اللافت أن المقال صيغ بطريقة ركيكة، كما تضمّن أخطاءً إملائية، وبالتالي يرجح أن يكون قد كُتب بالإسبانية ومن ثم تُرجم على عجل إلى الإنكليزية. وأشير في المقال إلى أن مصدره هو «أكسسواير» (Accesswire)، وهي شركة علاقات عامة تجارية.
يعيش «نجم الروك في القضاء» المكسيكي اليوم في فلسطين المحتلّة (تحديداً في برج «نيفي تزيديك» - Neve Tzedek Tower، في تل أبيب). وهو شريك في مطعم مكسيكي ومقرّب من رجل الأعمال الإسرائيلي دافيد أفيتال، إذ تقرّب منه في المكسيك حيث يملك أفيتال شركة تجارية (أي دي آر - ADR) التي تمتلك أسهماً في شركة M.T.R.X المصنّعة لأدوات التنصّت القصيرة المدى. وقد طوّرت الشركة نظام «بيرانا» (Piranha) الإلكتروني الذي يلتقط رقم التعريف (IMSI) الفريد لكل مستخدم في الشبكة الخلوية التي تستخدمها شركات الاتصالات. يُستخدم هذا النظام من قِبل الشرطة ووكالات الاستخبارات التي تسعى لاعتراض الاتصالات الخلوية ومراقبتها، بما في ذلك الاستماع إلى المكالمات.

قد لا يتمكن زيرون من العودة أبداً إلى المكسيك بسبب لائحة الاتهامات الجنائية الموجهة ضده، ويبدو أنه وجد وطناً جديداً له في «إسرائيل»


كما أن أفيتال هو أحد المساهمين الأساسيين في الشركة التي وضعت برنامج «بيغاسوس» للتجسس. ولا بد من الإشارة إلى أن النائب السابق لقائد الوحدة 8200 الاستخبارية الإسرائيلية يوهاي بار - زكاي هو أيضاً من أبرز المساهمين في هذه الشركة.
خُتم مقال «يديعوت أحرونوت» بخلاصة واضحة، مفادها أن توماس زيرون قد لا يتمكن أبداً من العودة إلى المكسيك بسبب لائحة الاتهامات الجنائية الموجهة ضده، لكن يبدو أنه وجد وطناً جديداً له في «إسرائيل».



نيويورك تايمز وأخلاقيات المهنة
أجرى الإسرائيليان رونين بيرغمان وإيتاي إيلناي المقابلة الأخيرة مع المطلوب للعدالة المكسيكية توماس زيرون التي نُشرت في ملحق «يديعوت أحرونوت»، «سبعة أيام». وساهم بيرغمان بنقل وقائع الاجتماع المسجّل سراً، والذي عُقد في شباط 2022 بين أليخاندرو إنسيناس وتوماس زيرون في تل أبيب لإقناع زيرون بتسليم نفسه. وقبل نشر نصّ المقابلة في الصحيفة الإسرائيلية، نشر بيرغمان رواية عن الاجتماع السرّي في تشرين الأول الفائت في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية في تجاوز واضح لأبسط المعايير الأخلاقية الصحافية، إذ سُجّلت المقابلة من دون علم إنسيناس.


إدانة وزير الأمن العام
أدانت محكمة فدرالية أميركية وزير الأمن العام المكسيكي السابق جينارو غارسيا لونا في شباط 2023 بتهمة الاتجار بالمخدرات وتلقّي رشوة من عصابات الاتجار بالمخدرات. وبالرغم من الانتقادات التي عبّر عنها زيرون تجاه لونا خلال المقابلة التي أجرتها معه الصحيفة الإسرائيلية، تؤكد الصحافة المكسيكية أن زيرون كان من «أتباع» الوزير وأزلامه.