يكمن سرّ سجعان قزي في تحديد هويته، سياسياً أو «مقاوماً» من زمن «مقاومة» بشير الجميل، أو صحافياً، أو كاتباً لامعاً صاحب لغة راقية. من رعيل سياسي وإعلامي كانت الثقافة والموسيقى والرسم والفن في صلب اهتماماته، على خلاف طبقات سياسية وإعلامية لاحقة. مزج الأدب بالألعاب السياسية، وخلط لغته الصافية بحرتقات سياسية وإعلامية يعرفها من عاصروه عن كثب. ذوّاقة أدب وشعر، وصاحب لسان سليط على خصومه وحتى أصدقائه. امتلك قدرة على التواصل مع الجميع، وعلى عدم قطع شعرة معاوية إلا عند الضرورة، حتى مع أكثر من كان ينتقدهم. بقي الحنين الى الصحافة سرّه الدائم، فاستعاد القلم في بيروت التي عاد إليها كاتب مقال صحافي، وصاحب مؤلفات في التاريخ وآثاره المستقبلية، وطارح مشاريع سياسية بلغة حوارية.من تتلمذ على يده في «إذاعة لبنان الحر»، يوم كان مديرها العام وملاحقاً أدقّ تفاصيلها وموجّهاً صحافيّيها الذين احتلوا الصف الأول في الإذاعات والتلفزيونات والصحافة المكتوبة، يحكي عن «الأستاذ سجعان» الذي رفع الإذاعة - وكان يعتبرها أحد أهم إنجازاته منذ تأسيسها عام 1978 - الى صفّ الإذاعات الأولى يوم استباحت الإذاعات الخاصة والحزبية الأثير اللبناني. مشروع «لبنان الحر» الذي أطلق، إعلامياً وسياسياً، القزي الآتي من جريدة «العمل» و«صوت لبنان»، هو نفسه مشروع بشير الجميل المنتفض على الكتائب على طريقته. وقد كان القزي أحد اللصيقين بـ«مشروع بشير» الذي آمن به حتى العظم، فوضع كل ما تعلّمه من حلقات الكتائب والقوات ومن كبار القادة والسياسيين الموارنة والدوائر الدبلوماسية في خدمة هذا المشروع الذي كتب أدبياته وخطابات رئيسه، قبل أن ينتهي في 14 أيلول 1982.
لكن، من مزايا القزي أنه لم يكن ليستكين. نهاية مشروع، بالنسبة إليه، انتكاسة وليس خاتمة. إذ ما لبث أن استعاد حيويته السياسية، فخاض تجربة إيلي حبيقة والاتفاق الثلاثي، وإن لم يكن في المطلق محبّذاً له أو للعلاقة مع سوريا، قبل أن تجهض «انتفاضة سمير جعجع الاتفاق وتطيح بحبيقة وتخلط أوراق القوات والكتائب والشارع المسيحي.
طوى طموحه، الى حين، وسافر الى باريس التي أعطته فرصة العمل في مجال الدراسات والاستشارات. هناك، حيث كان يقيم سياسيون ورفاق سابقون، كان القزي يعيد تقويم تجربته السياسية ويضع خطط المستقبل، من بوابة حزب الكتائب والعلاقة مع الرئيس أمين الجميل التي تعمّقت أكثر خلال وجود الأخير في المنفى الباريسي.
بعد عودته الى بيروت عام 2000، طبعت علاقته مع الجميل الذي عيّنه مستشاراً له المرحلة السياسية الثانية من حياته. لكنها لم تكن على قدر أهمية دوره وانتمائه الى «مشروع بشير» الذي ظلّ الأول والأخير بالنسبة إليه. فبعده، كان القزي كمن يفتش عن مسرح للتعبير عن طموحاته السياسية. طموح الماروني، ابن جبل لبنان وكسروان، بوسع البحر الذي تطل عليه بلدته العقيبة. لكن طموحات أمثاله في الأحزاب التقليدية تبقى دائماً محكومة بقرارات رئاسة الحزب التي ترى في أي طموح مشروع منافسة على الزعامة. مع الجميل، كان نائباً للرئيس ومستشاراً ولاعباً سياسياً ووزيراً للعمل، ومرشحاً للنيابة، لكنه ظل أولاً وأخيراً... سجعان قزي. يحبّه عارفوه، ويبتعد عنه من يرى فيه طموحاً لا محدود للانتقال من الصف الثاني الى الأول.
بين الجميل الأب والجميل الابن فوارق سياسية وأساليب عمل مختلفة وفريق عمل له خصوصيته، ونظرة الجيل الكتائبي الجديد للقزي مختلفة، كاختلاف رؤيته هو للعائلة التي رافق مؤسسها ورئيسَين للجمهورية خرجا منها. كان من الصعب أن يلتقي بالجميل الحفيد الآتي من موقع مناقض. اختلف مع رئيس حزب الكتائب سامي الجميل ورفض تقديم استقالته من وزارة العمل، وظل لاعباً منفرداً. فكانت مرحلة سياسية ثالثة الى جانب بكركي، وبدا أن الخارج من رحم الأحزاب وجد في المرجعية المارونية مجالاً أوسع مدى.
أنهى القزي «نضالاً» كتائبياً عمره عقود، وعاد الى حبّه الأول: الصحافة والكتابة. لكنّ القلق الدائم ظلّ محرك الأفكار التي رأى في بكركي مجالاً لتسويقها. الى جانب البطريرك بشارة الراعي، طرح فكرتَي الحياد الإيجابي والمؤتمر الدولي من أجل لبنان. أُخذ على البطريرك أنه سار في الطرحين من دون تهيئة ظروفهما ففشلا. لكن ذلك لا يعني أن القزي لم ينجح في تحقيق خرق سياسي لبكركي. صحيح أنها لم تقدّمه على أنه مستشار الراعي الخاص، لكنه كان محور الاتصالات ومقصد من يريدون معرفة موقع بكركي من هذه المسألة أو تلك. وهو حضور لم يثر ارتياحاً لدى بعض المقرّبين من الراعي.
الرجل الذي لم يستسغ الشعبوية ولا النزول الى الشارع بالمعنى التقليدي للسياسة اللبنانية، وخبر الفخاخ السياسية ودهاليز السياسة، عزّز موقعه مع مختلف الأفرقاء وفتح قنوات حوار انطلاقاً من قربه من الراعي. الى أن كان المرض الذي لم يستطع وقف اندفاعته، فظلّ أميناً لقلمه. وحده الموت يمكن أن يوقف سجعان قزي عن طرح أفكار ومبادرات والقيام بجولات اتصالات يومية مع صحافيين وسياسيين ودبلوماسيين. حركته التي لا تهدأ، ستغيب وتغيب معه صفحة أخرى من تاريخ «المجتمع المسيحي» الذي ظلّ يحاول أن يقول فيه كلمته.